عمشة حاج سليمان، البالغة من العمر 84 عاماً، عجوز فلسطينية ترى بعين واحدة فقط وتمشي بعسر ومشقة، لكنها ما تزال تتذكر فرارها من قريتها في فلسطين التاريخية عندما كانت فتاة صغيرة، إذ تقول: «لقد مشينا طويلاً عبر الأراضي» بينما كانت القوات الإسرائيلية تتقدم قبل حوالي 75 عاماً، مضيفةً: «أتذكر كيف غادرنا سيراً على الأقدام، وكيف نمنا في العراء، وافترشنا الأرض، لا نحمل معنا سوى الملابس التي نرتديها». عمشة واحدة من مئات آلاف الفلسطينيين الذين طُردوا من منازلهم خلال تأسيس إسرائيل في عام 1948 والحرب العربية الإسرائيلية التي تلت ذلك.. نزوح جماعي يتذكره الفلسطينيون باسم «النكبة».

وبالنسبة لعمشة، كان فرار عائلتها بداية حياة من النزوح، إذ تقول من مخيم برج البراجنة للاجئين الواقع جنوب بيروت: «لقد مرت 75 عاماً، وما زلنا لاجئين»، مضيفةً: «ليتنا متنا تحت أشجار الزيتون بدلاً من المغادرة بتلك الطريقة ورؤية ما رأيناه». مَشاهد نزوح ما يناهز 1.9 مليون فلسطيني جراء الهجوم الإسرائيلي على غزة، العديد منهم يفرون مرة أخرى من منازلهم سيراً على الأقدام، تُعمّق جرحاً جماعياً للفلسطينيين يمتد على مدى أجيال.

وفي لبنان، يزيد خطر توسع الصراع وامتداده إلى داخل البلاد مِن دق ناقوس الخطر. كما تؤدي التحذيرات الإسرائيلية من الحرب، والقتال عبر الحدود بين إسرائيل و«حزب الله»، إلى إصابة الناس عبر الانقسامات العديدة في لبنان بالتوتر. ومن هؤلاء نادية حامد، التي تعمل طباخة لدى «سفرة»، وهي شركة تموين فلسطينية تديرها نساء، وتقع في المخيم المكتظ باللاجئين. وتقول نادية إن الضربات «تقترب أكثر فأكثر وخطابهم يتصاعد»، مضيفة: «إنني أعيش في خوف، لأنه إذا جاءت الحرب، فلن يكون هناك مفر منها».

وظيفة نادية تساعدها على إعالة أسرتها، لكنها تساعدها أيضاً في الحفاظ على التقاليد الفلسطينية من أجل أطفالها الأربعة إذ تقول: «أحكي لهم قصص والدي أيضاً حتى لا ينسوا».. إنها قلقة على مستقبلهم. والمخيم أشبه بمتاهة من الجدران المتهالكة والكابلات المتدلية. وتقول: «في الحقيقة لا يوجد لهم شيء هنا». بعض الفلسطينيين في لبنان ينظرون إلى حياتهم في المنفى على أنها تحذير لما قد يخبِّئه المستقبل لسكان غزة في حال تحققت دعوات بعض المسؤولين الإسرائيليين للتهجير الجماعي للسكان من القطاع المحاصَر. كما يخشى البعض أن تُضعف حرب إسرائيل مع «حماس» الآمالَ في التوصل إلى حل لهذا الصراع الذي لا ينتهي.

والكثيرون يصفون هذه الحرب، التي تبث مباشرة على هواتفهم وعبر أجهزة التلفاز الخاصة بهم، بأنها تذكير مؤلم بسبب تمسكهم بذاكرة جماعية وبسبب تناقلها عبر عائلاتهم. النكبة ليست بعيدة عن شتات جدعون. والداه أطلقا عليه هذا الاسم بعد وقت قصير من فرار والدته الحامل من قريتهم الفلسطينية.

وقد وُلد على الجانب الآخر من الحدود في لبنان سنة 1948. بالقرب من أنقاض قريتهم تقع بلدة إسرائيلية اليوم. ويقول إن والديه تركا خلفهما كل شيء تقريباً، فـ«ربما لم يكن لديهما الوقت»، أو ربما ظن الكثيرون أن الأمر سيكون مؤقتاً فقط. ووفقاً للأمم المتحدة، فإن نحو 5.9 مليون فلسطيني في الشرق الأوسط، من الناجين من نزوح 1948 وأحفادهم، مسجلون كلاجئين.

أعداد أكبر منهم تعيش في أماكن أخرى من العالم. هذه الحياة المعلقة قد تكون أوضح في مخيمات اللاجئين الـ 12 المنتشرة عبر لبنان، حيث لا يزال العديد من اللاجئين الفلسطينيين في البلاد، والذين يقدّر عددهم بنحو 200 ألف لاجئ، من عديمي الجنسية. تاريخهم في لبنان لا يزال مشحوناً. ذلك أن مسلحين فلسطينيين تورطوا في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت من 1975 إلى 1990 على أسس طائفية.

غير أن التوازن الطائفي الهش في لبنان يجعل الحديث عن منح اللاجئين الجنسيةَ أمراً حساساً. وحقوق اللاجئين الفلسطينيين مقيّدة بشدة، من العمل إلى امتلاك العقارات. وهو ما يغذّي شعوراً دائماً بعدم اليقين لدى الفلسطينيين، تقول سعدة غطاس، وهي جدة لطفلين تبلغ من العمر 54 عاماً، والتي تضيف: «إن الأمر شبيه بأن تحمل حقيبتك دائماً وتنتظر»، قبل أن توضح: «أقسم أنني أحتفظ بحقيبة في منزلي لحالات الطوارئ. فنحن لا نعرف أبداً متى يحدث شيء ما، وعلينا أن نحمل حقائبنا ونرحل».

في منطقتها التي تقع على أعلى التلة في ضبية، شمال شرق بيروت، تريد غطاس وآخرون تجهيز ملاجئ تحسباً لتوسع النزاع وامتداده إلى لبنان. أقاربها في غزة، وهم أعضاء مجتمع صغير من الفلسطينيين المسيحيين هناك، اعتصموا بكنيسة تعرضت للنيران الإسرائيلية. وتقول غطاس: «إن الأشخاص الذين يُقتلعون من جذورهم لا يستطيعون العودة، وهذا ما حدث لأجدادنا»، مضيفةً: «لهذا، على الرغم من أنهم يموتون كل يوم، فإنهم يخبروننا بأن الشيء نفسه سيحدث لهم إن غادروا». ومع تزايد حصيلة القتلى في غزة، تصف غطاس وفلسطينيون آخرون انتظارَهم اليائسَ لكلمة من الأقارب والأصدقاء في القطاع.

منذ السابع من أكتوبر، قلّما تغلق غطاس جهاز التلفاز. وقد شاهدت القصف الإسرائيلي، وهو يسوّي الأحياءَ بالأرض، ويُجبر النازحين على العيش في ركن واحد من غزة. جارها بولس الديك، البالغ من العمر 86 عاماً، يحكي كيف شاهد رجالَ الإنقاذ، وهم يسحبون الأطفال من تحت الأنقاض، فانفجر باكياً، إذ قال: «قلبي ينفطر، الله يحفظنا مما هو قادم»، مضيفاً: «عن أي حق في العودة يتحدثون؟». إلياس حبيب، مدير اللجنة الخيرية المسيحية المشتركة في مخيم الضبية الصغير، يقول إنه من المهم الحفاظ على ذكريات الناجين القلائل المتبقين هناك من نكبة 1948.

حبيب كشف عن وثيقة هوية وجدها بين أغراض والده. وعلى الصورة ختمٌ نقرأ فيه باللغة الإنجليزية: «حكومة فلسطين». آخرون وصفوا تركات عائلاتهم: وثائق تُثبت ملكية الأرض، ومفاتيح منازل، وأواني نحاسية صغيرة.. إلخ. ويقول حبيب: «إن الأمر مختلف عندما يكون لديك شخص عاش ذلك، سواء قصص الأيام الجميلة أو آلام النكبة»، مضيفاً: «لكن لا شيء يمكن أن يجعل الشخص ينسى جذوره وحقوقه.. إنه ما زال جرحاً مفتوحاً، لأن النزوح مستمر».

عائلة صلاح ضاهر أنشأت لجنةً لتعقب نسبها وجمع الوثائق القديمة من القرية الفلسطينية التي فر منها والداها عام 1948، فانتهى به الأمر في برج البراجنة بعد فراره من القتال في جنوب لبنان قبل الغزو الإسرائيلي عام 1978. ويقول ضاهر، البالغ 62 عاماً: «لا يزال لدينا مفتاح منزل جدي»، مضيفاً: «كان والدي يحتفظ به، وكان لا يزال لديه أمل في العودة إلى أرضه حتى يوم وفاته، ونحن سنواصل ذلك».

إيلين فرانسيس*

*برج البراجنة -لبنان .

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»