يناقش الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس في كتابه «الذاكرة الجماعية» كيف تؤثر الجماعات الاجتماعية في تشكيل الذكريات الفردية، وكيف يوفر التراث الثقافي للمجتمعات ما يسمى «إطارات ذاكرة» تُمكن الأفراد من تفسير تجاربهم، وتعريف هوياتهم عن طريق المرجعية الثقافية الشاملة التي يقدمها التراث. أمَّا الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي بيير نورا، فيصف في نظريته «أماكن الذاكرة» كيف تُحفظ الذاكرة الجماعية في الأماكن، والرموز، والممارسات الثقافية، وتصبح عناصر التراث، مثل العادات والشعر والموسيقى والرقصات التقليدية، عناصر حية تُمارس دوراً نشيطاً في تعزيز الذاكرة الجماعية، والهوية الوطنية. 

وتجادل المفكرة والفيلسوفة الألمانية أليدا أسمان هذه الأفكار، وتناقش في بحث لها عن «الذاكرة الثقافية وتأثيرها في الهوية الجماعية»، كيف تُسهم العناصر المختلفة من الفنون والتقاليد في صياغة الوعي الجماعي، وتوجيه السلوك الاجتماعي والثقافي، في حين أن الفيلسوف وعالم الإنسانيات الفرنسي بول ريكور يبحث في كتابه «الذاكرة، التاريخ، النسيان» العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، وكيف تؤثر الروايات التاريخية في تفسيرنا للماضي، وكيف يمكن للذاكرة أن تحفظ ليس الحقائق فقط، بل الدلالات والقيم المتضمَّنة فيها. 

ويُعد الفلكلور والتراث الشعبي لدولة الإمارات العربية المتحدة الوعاء الذي جمع الحصيلة الإنسانية العريقة لهوية الشعب الإماراتي الأصلية، سواء التراث المادي والحضري، أو الفلكلور والأدب الشعبي والعادات والتقاليد والفنون الشعبية والأمثال والأهازيج وغيرها التي نُقلت عبر الأجيال. وهذا التراث ليس مجرد موروث ثقافي، بل هو إطار متكامل يُفسر ويعيد بناء جميع الفترات التاريخية على أرض الإمارات، التي لا يوجد سوى شواهد قليلة جدّاً عليها. 

ولا تزال الذاكرة الجماعية الإماراتية تحفظ الشعر النبطي، الذي يُعد أحد أبرز أشكال الأدب الشعبي في دولة الإمارات، ويواصِل الحفاظ على مكانته بصفته وسيلة للتعبير عن الذات والهوية الإماراتية، ويعكس الحياة اليومية والاجتماعية للإماراتيين، إذ يتناول موضوعات مثل الشجاعة، والفخر، والكرم، والحب، ويؤكد القيم الأساسية للمجتمع. ولا تزال الأمثال الشعبية أيضاً مخزناً للحكمة الإماراتية، وتؤدي دوراً كبيراً في تعليم الأجيال الجديدة القيم المجتمعية والأخلاق العالية. وهذه الأمثال الشعبية تنقل تجارب الأجداد ومعارفهم بطريقة موجزة وفعَّالة، ما يسهل استيعابها وتذكرها. 
وكذلك نجد أن الرقصات الشعبية مثل «اليولة» وغيرها لا تزال تمثل جزءاً لا يتجزأ من التراث اللامادي لدولة الإمارات، وهذه الرقصات لا تُظهر المهارات البدنية والإيقاعية فقط، بل تُعبر عن القوة والفخر الوطني أيضاً. وبالمثل لا تزال الموسيقى التقليدية الإماراتية حتى الآن تُعزز الشعور بالانتماء، وتُحفز الوحدة الوطنية، كما أن القصص والحكايات الشعبية، التي تحتفظ بالتاريخ الشفوي للأمة الإماراتية، تساعد على تعزيز الفهم العميق للتحديات والانتصارات التي مر بها الأجداد. وهذه الحكايات تُعلم الأجيال الشابة أهمية الصبر، والذكاء، والإبداع في حل المشكلات. 
ويمكن القول إن التراث الثقافي لدولة الإمارات العربية المتحدة يُمثل مصدراً حيويّاً للذاكرة الجماعية، وعنصراً أساسيّاً في صون الهوية الوطنية، لكونه يربط الإماراتيين بماضيهم العريق الذي يمدهم بإطار مرجعي يُعزز الفهم العميق لدورهم في الحاضر، ويُشكل تأثيرهم المستقبلي. 
لكنْ كيف يمكننا تحويل الذاكرة الجماعية التراثية التي نملكها إلى ذاكرة تراثية إماراتية نشيطة، بحيث لا يعمل التراث على حفظ الماضي فقط، بل يرسم كيفية تفاعلنا مع الحاضر، وتوقعاتنا للمستقبل، مُمثلاً بذلك دوراً فعالاً في تشكيل الوعي الجماعي، والهوية الوطنية المستمرة في التطور؟ 
وفي البداية علينا أن نتفق أن التراث ليس مجموعة من القطع الأثرية، أو الأعمال الفنية المعزولة، بل هو منظومة تعكس تاريخ الأمة، وتحافظ على هويتها، وأن كل جزء من هذه المنظومة يؤثر ويتأثر ببقية العناصر، ما يجعل التراث ديناميكيّاً وقابلاً للتطور والتكيف مع التحديات المعاصرة، مثل العولمة والتحديث، وبذلك يصبح أساساً للتنمية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في دولة الإمارات. 
ويُمثل الاستثمار في صون الذاكرة النشيطة للتراث الثقافي الإماراتي وتعزيزها أساساً متيناً لبناء مستقبل مزدهر ومستدام، ويفتح ترويج هذا التراث الثقافي آفاقاً جديدة للتبادل الثقافي مع العالم، ما يسهم في تقديم صورة معاصرة ومتكاملة لدولة الإمارات تجمع بين الأصالة والحداثة، وتُعزز مكانتها بصفتها مركزاً ثقافياً عالميّاً.

*أستاذة علم الاجتماع، رئيسة رواق عوشة بنت حسين الثقافي الاجتماعي