منذ زمن بعيد، لم أقرأ ولو شيئاً يسيراً من لحظات الذكريات، من فرط ما استوعبتها في ذاتي، ذاكرة ما زالت تومض بالحياة، رغم تلاشي بعض تفاصيلها، إلا أنها في طورها الزمني باقية وحاضرة، لم أتفحص جزئياتها بما يكفي لاستدراجها، وبث الحياة في روحها من جديد، بل أتجنبها أحياناً، حتى لا أعيد ما بدأ أو أعيد ما انتهى، ولا أودها أن تختزل في سنوات العمر، بشكل ضيق وخانق، فكلما مضينا في الحياة، أحياناً يسلبنا الماضي خطواتنا، يجبرنا بعطش السنين، ومرارة الوقت، لنعيش في جوفه ببعض من الذكريات، وفي جلباب ذاكرة مترامية الأطراف ومرهقة إلى حد بعيد.
اللحظات الزمنية في الحياة، في تأصل الذات وتأملها، هي الحياة بما يجيء منها في مناسبات متشابهة في مدارها، في الأيام التاليات، سمات للماضي، سمات للحاضر، سمات للمستقبل، حيث تتكأ الذكريات، أو تناور بين الحقب الزمنية، تفر إليها لتتشبع برائحتها الماضية، أو تتماهى بالحاضر لتدرك الوقت، لتصنع رؤى الأيام القادمة، تمحو جزئيات مضت، أو تشعل شمعة لتنير ما هو قادم من الأيام.
ذاكرة تباغت الأيام، تعرج في حياتنا، تلملم بصمت ما تبقى من عزف ينشطر ما بين الضحكات، الذاكرة تضحك، وتخفق في أرواحنا، تتشبث في نبتنا البكر، تروي الكثير من أوراق الرؤى، والكثير من طور الحياة المتشكلة والمتشابكة، تتماهى في سطور بعضها ببعض، مسكونة بالزمن، وبالأحلام التي خلت، تداعياتها تستعصي أن تستحضر الإحساس والشوق إذا ما انتهى وتبدد وتنحى بقدر محتوم، والأمل لا تدركه الذاكرة، تتقاسمه اللحظات، إذا ما تجسد سراً، والصمت إذا ما بدا فارغاً، يخسر رهان الوقت، إلا أنه يستعيد رهانه بصوت رقيق.
تبدأ الذكريات في صخبها الدائب، تدفع بالزمن إلى ما هو قادم، تطلق حوارها في اتجاهات متعددة، مثلما نجم مضاء بالصمت والحروف، تدفق باللحظات، بملذات متسعة جلها ذات أفكار يقرأها الإنسان بصمت، يفطن لها المفكر، يتقلد التاريخ وسام الذكريات، لدى الكاتب تتحول إلى إيماءات كلما كتبها تاهت إذا لم تقرأ جيداً فصولها حيث تبتغي المجازفة المؤلمة.
ذاكرة الحياة هي منتهى البحث عن الفكرة، عن عدم الوضوح، عن مرآة عاكسة تستوعب كل التجليات الزمنية، تستيقظ بها على أدراج التوهج الزمني، مضى وقت طويل تسللت بعدها في حروف لم تنفصل. ذاكرة على أعتاب الحياة تتجلى، بما يمكن من بقايا المدى، والدلالات حولها من اللحظات والطقوس الحياتية المشرقة تتبنى الفكرة.