أينما وجد الجفاف العاطفي ترتفع وتيرة الحروب، ويصبح الدم البشري بقيمة الماء المالح، ويصير الإنسان غزالة برية تطاردها مخالب وحش ضار.
لا سبب موضوعي مادي لاشتعال الحروب في العالم، لأن الأرض واسعة، والسماء شاسعة، ويستطيع الإنسان أن يسوق ركابه إلى حيثما شاء على هذه الأرض، كما ويمكنه بكل بساطة أن يتنفس وينظر إلى نجوم السماء، ويغني لأجل الحياة من دون مشقة، ولكن عندما لا يعي الإنسان بأننا جميعاً أبناء الأرض، ولا يقر بأن الأرض بيتنا المشترك، والسماء سقفنا تكبر المشكلة، وتصير سيفاً حاداً يقطع أوصال السؤال الوجودي، وتنتهي المسألة إلى حروب ضروس تبيد الأخضر واليابس ولا تدع ولا تذر.
وحجة الإنسان في هذا الزمن أن الحروب تنشأ لاختلاف الديانات، وهذا أمر غير مبرر لأن أي تجذر ديني أو عرقي مبرر، ولكن بشرط أن يصاحبه تجذر عميق في الهوية الإنسانية الأرضية.
لو استيقظ الإنسان في ذات صباح ووجد نفسه أنه يحارب من أجل وهم، هو الذي اصطنعه، وهو الذي حاك حوله التدابير والقصص والحكايات والخرافات، ويكفينا القول هنا بما أفصح عنه الفقيه والفيلسوف العربي الأندلسي ابن رشد إذ قال (كل الأديان صحيحة إذا عمل الإنسان بفضائلها) فيا له من فصيح حصيف أوجز فاختصر فأصاب بعدما نجح في اكتشاف ذلك (الأنا) الملعون الذي يحيل حياة البشرية إلى جحيم عندما يتورم وينتفخ بالونه
ويصير في الحياة جرحاً عميقاً لا تدمله أمصال الدنيا، ولا تعالج بلواه حروز، ولا تخفف من آلامه مسكنات.
ولو رجعنا إلى الذاكرة ومنذ فجر التاريخ لوجدنا أن كل الحروب انتهت بخيارات فادحة ألمت بالمنتصر والمهزوم على حد سواء، فلا غالب ولا مغلوب في الحروب، لأنها نتيجة
خدع بصرية، مبعثها العقل المأزوم بعقدة التفوق على الآخر، وكيف يتفوق شخص على آخر، وهما يسيران على ظهر قارب واحد فإذا غرق القارب فلن ينجو أحد، وكلاهما هالك لا مناص.
ليست هذه أحلام ما قبل النوم ولا هي خيالات فضفاضة إنما هي حقيقة التاريخ، والذي يخبرنا بأن الحياة حبل مشدود بين طريقين أحدهما إنسان والآخر إنسان، وكلاهما يجب أن لا ينحرف عن رغبة الآخر في الوجود، وإلا سوف تنتهي الرغبات إلى إفناء أحدهما الآخر، وفيما الآخر ينتهي بلا رجعة، فما قيمة من يبقى وحيداً في وجه متطلبات الوجود، والتي تستدعي إلى وجود طرفين كي يحركا مجدافي القارب وإلا فسوف يتبعه الآخر إلى حيث تكمن المهزلة الوجودية.
الحضارات قامت ونهضت وانتعشت وازدهرت ويفعت أغصانها وينعت ثمارها عندما اتحدت إرادة البشرية في بناء مجتمع إنساني قائم على البحث عن مسببات البقاء والتطور والتقدم، وزالت هذه الحضارات واندثرت وتلاشت معالمها عندما وسعت حدقات الجشع وكبرت أظافر التزمت والتعنت وتضخمت الأنا، بحيث ملأت الدنيا نعيقاً ونقيقاً.