بدأت أزمة انخفاض المواليد في إسبانيا منذ أكثر من 30 عاماً وتسارعت وتيرتها مؤخراً، مما يثير سؤالاً بات يواجه معظم البلدان الغنية وكل البلدان الأوروبية تقريباً، ألا وهو: كيف يمكن للمجتمع التكيف، ناهيك عن الحفاظ على ديناميته، مع انخفاض الخصوبة الذي يُعزى إلى ارتفاع نسبة النساء اللاتي لا ينجبن بتاتاً؟
وهناك شيء واحد يبدو مؤكداً، ألا وهو أن السياسات الحكومية في الديمقراطيات الحديثة تظل على العموم عديمةَ الجدوى في إقناع الناس بإنجاب مزيد من الأطفال. ذلك أن الولادات تتضاءل حتى في بلدان شمال أوروبا التي تقدِّم للآباء والأمهات إعفاءاتٍ ضريبيةً سخيةً، وإجازاتِ أمومة وأبوة، ورعايةً للأطفال، ومنحاً نقدية.
وفي وقت باتت فيه الأُسرة الصغيرة هي القاعدة، تمثّل إسبانيا نموذجاً لكيفية إدارة هذا التحول بنجاح. لكنه نجاح ليس من دون كلفة أو مخاطر، وإسبانيا مثال على ذلك أيضاً.
يترك انخفاض معدل المواليد البلدانَ إزاء بدائل غير مستساغة للحفاظ على نموها الاقتصادي وماليتها العامة، مثل تشجيع الهجرة، وزيادة الضرائب، وتقليص الخدمات العامة والمعاشات التقاعدية، وتأخير سن التقاعد.. إلخ، أو كل ذلك معاً.
وإسبانيا، التي تتساوى مع إيطاليا تقريباً باعتبارهما أكثر الدول الغربية الكبرى انخفاضاً في الخصوبة، اختارت فتح أبوابها لمزيد من المهاجرين. ففي أواخر التسعينيات، كانت نسبة المهاجرين في إسبانيا لا تتعدى 3 في المئة من مجموع سكان البلاد، أما اليوم فباتوا يمثّلون أكثر من 17 في المئة من السكان، وهي واحدة من أعلى النسب في أوروبا، كما أنها أعلى مقارنة بالولايات المتحدة.
هذا الأمر وفّر العمال ودعم النمو السكاني للبلاد رغم أنها سجّلت معدلَ خصوبة قياسياً من حيث الانخفاض العام الماضي: أقل بقليل من 1.2 طفل مولود لكل امرأة، أي أقل مما يعرف بمستوى الإحلال (2.1 في المئة) المطلوب للحفاظ على التوازن السكاني مع مرور الوقت.
أسباب انخفاض المواليد معروفة، وليس أقلها زيادة الخيارات المتاحة للنساء مع ارتفاع أعدادهن ضمن القوى العاملة، وهي أسباب مشتركة في الدول المتقدمة عموماً. ولكن في إسبانيا يتقاضى العمال الأصغر سناً رواتب متواضعة (حوالي 20 ألف دولار سنوياً) في وظائف غالباً ما تكون مؤقتةً. وهذا لا يكفي لدفع الإيجار الذي ارتفع بسبب التطويرات العمرانية والتضخم وتطبيق «إير بي آند بي» لتأجير الشقق، ولهذا يعيش خريجو الجامعات عادة مع والديهم، ولسنوات أحياناً، مع بدء حياتهم المهنية. وهو ما قد يؤدي إلى تأخير العديد من الأشياء، بما في ذلك تكوين الأسر وإنجاب الأطفال. 
وقد رأيتُ أثناء زيارتي لمدريد أطفالا صغاراً، بعضهم رضَّع، في عربات أطفال تدفعها أمهات في منتصف العمر أو آباء ذوو شعر رمادي، ونادراً ما كان لهم أشقاء أكبر سناً. ذلك أن الأبوة والأمومة بالنسبة للشباب في أوروبا عامةً، ليستا أمراً رائعاً، والأكيد أنهما أقل روعة من السفر وقضاء بعض الوقت مع الأصدقاء ومتابعة الحياة المهنية. إن حوالي ربع النساء الإسبانيات المولودات في منتصف السبعينيات ليس لديهن أطفال، وهذا الرقم آخذ في الارتفاع بين النساء الأصغر سناً، حتى في الولايات المتحدة، حيث معدل الخصوبة أعلى.
ويقول خبراء إسبان في علم السكان (الديموغرافيا) إن مشكلة ندرة المواليد تتفاقم بسبب كلفة تربية الأطفال، التي تناهز 700 دولار شهرياً في إسبانيا، وكذلك الوقت الذي تتطلبه تربية الأطفال والاعتناء بهم. وبالنسبة لبعض الإسبان الذين يفكرون في إنجاب أطفال، فإن ازدياد القلق يزيد من التردد والعزوف: إذ لماذا إنجاب أطفال في عالم عانى خلال السنوات الأخيرة من الركود والوباء والحروب وتغير المناخ؟
والواقع أن معدلات المواليد في فرنسا وإنجلترا والنرويج والمجر وبولندا آخذة في الانخفاض أيضاً. وفي فنلندا، انخفض معدل الخصوبة إلى أدنى مستوى له منذ 246 عاماً. ويقول إيطاليون إن بلدهم بات «بلد المهود الفارغة»، وهو ما دفع البابا فرانسيس إلى التنديد بما سمّاه «الأنانية» التي تدفع الشباب إلى تفضيل الحيوانات الأليفة على الأطفال. وفي فرنسا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون، القَلِق من انخفاض معدل المواليد في بلاده، عن «إعادة تسلح ديموغرافي». 
أما في إسبانيا، فهناك القليل من الخطابات المنذرة بالكارثة، لكن ثمة الكثير من الألم والمعاناة الخاصة. إذ يشير خبراء علم السكان إلى استطلاعات رأي تُظهِر أن الناس يرغبون في أطفال أكثر مما ينجبون حالياً. كما تشهد عيادات الإخصاب الإسبانية طفرةً وازدهاراً ملحوظين حالياً بفضل نساء في أواخر الثلاثينات والأربعينات من عمرهن انتظرن حتى يحملن، لكنهن سرعان ما واجهن الحقيقة البيولوجية المرّة بأن الوقت لم يعد لصالحهن. 
في «جينيفيف»، وهي مجموعة من عيادات الإخصاب الأنيقة في مدريد، يساعد اختصاصيون نفسيون مرضى يتلقون علاجات طويلة الأمد لا يفوقها في التأثير النفسي سوى علاج السرطان، كما يقول المدير الطبي خواكين لاسر، والذي يضيف: «لا أحد يشعر بالقلق بشأن الخصوبة لأن لا أحد يدرك معاناة مرضى الخصوبة».
غير أن ازدياد الهجرة يدعم النمو الاقتصادي القوي في إسبانيا، والذي يفوق النمو الاقتصادي في معظم دول أوروبا. فقد عبّد القانون الإسباني الطريق أمام المهاجرين، وخاصة القادمين من أميركا اللاتينية الذين يتشاركون اللغة والقرب الثقافي مع إسبانيا. ذلك أنهم يحصلون على العمل بسهولة وبشكل قانوني، وبعد عامين فقط، يصبحون مؤهلين للحصول على الجنسية.
وقد يكون من الصعب تكرار النموذج الإسباني في أماكن أخرى من أوروبا، حيث تشهد الأحزاب اليمينية المتطرفة المعادية للمهاجرين صعوداً ملحوظا. ففي انتخابات العام الماضي، تلاشى الحزب الإسباني المعادي للمهاجرين، والمعروف باسم «فوكس»، بعد فترة نجاح قصيرة قبل خمس سنوات.
لكن المخاطر تظل قائمة، فإسبانيا ربما لا تستطيع رفع معدلات الخصوبة، إلا أنه ما زال من غير الواضح ما إن كانت ستستطيع على الأقل تحقيق استقرار فيها من خلال سياسات أذكى. ومع ذلك، فإن دعم وظائف أكثر استقراراً للشباب يمكن أن يكون مفيداً، إلى جانب تعزيز إنفاق إسبانيا على الأُسر التي لديها أطفال، والذي يعادل نصف ما ينفق في العديد من بلدان شمال أوروبا كنسبة مئوية من الناتج الاقتصادي.
ولهذا، فإن أزمة انخفاض المواليد من المحتمل أن تبقى قائمة لوقت طويل، لكن إسبانيا تُظهر كيف يمكن إدارتها. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»