في خضم التطورات المتلاحقة التي تفرضها علينا معطيات التطور والحداثة المستمرين، وفي ظرفية زمانية ومكانية تخلق فينا شعورَ الدهشة كل برهة قصيرة، يعيش الإنسان ضمن اتجاهات ومسارب «مضغوطة» مع تعدد واختلاف أنماطها. فالمهم ليس الكيف، وإنما الكم للوصول لمثالية ترضي الإنسان عن ذاته!
وتعيش مجتمعات اليوم سباقاً متسارعَ الخطى نحو تحقيق الإنجازات المذهلة، والبقاء خارج صندوق التقليد والعادة، لإيجاد ما هو غير معتاد، والسماح لإلحاحية الإبداع بالانطلاق والفوران، تحقيقاً للاختلاف المحمود.
وفي ذات السياق، فإن الإنسان يستمر في مشوار «تحقيق ذاته» والتصالح معها، إلى أن يصطدم بتحديات الحياة وصعوباتها، ليقف الأمر على مستوى تحليله وتقبله وفلسفته الذاتية للموقف، فإما أن يتجاوز وإما أن ينهزم. وعلى سبيل المثال نجد أن أشخاصاً انتهت صلاحية بريقهم مع مرورهم بتجربة الفقد، وأشخاصاً آخرين لمعوا من قلب الألم، واستطاعوا بث تجربة معرفية وأخلاقية وتنموية نوعية. وربما يعود ذلك للفلسفة الخاصة بكل منهم، والتي ربطها العلماء ومفكرو علم الاجتماع بحزمة من العوامل مثل التنشئة المبكرة، والنضوج العقلي، والقوة البيولوجية، والإعداد السيكولوجي.. إلخ.
وبإمعان النظر في الظروف المذكورة، نجد أنها تتباين، لكنها تلتقي جميعها عند معنى فلسفي واحد هو الألم. وفي صراع الإنسان وليس سباقه مع الزمن، يحدث أن يقف محتاراً بين تحمل الألم أو الاستمرار في نضاله الإنساني الذي يربت على شعوره الداخلي الملح في طلبه لكل ما هو مثالي. وهنا نتساءل: هل الألم ضروري في حياة الإنسان «المسكين» بسيط القدرة ومحدود القوة؟
لابد هنا من تتبع ما يمكن أن يحصده الإنسان من موسم التعب والألم، فشعور الإنسان بالتعب هو أولاً إنذار وتنبيه لكي يستطيع الإنسان ترتيبَ أوراقه للمرحلة اللاحقة، وهذا لا يتوقف على التنبيه العصبي الذي ينذر بوقوع أمراض أو مخاطر، بل هو «جرس» عام يسمع صوتَه القاصي والداني في تتبع مجريات الأيام. وفيما يتعلق بمدى ذلك الألم، وقدرة الإنسان على تحمله، فإن الوصول لتفعيل خواص التجربة المؤلمة للإنسان لا بد أن يعطى بمستوى غير اعتيادي، أي يتجاوز قدرته الاستيعابية التي يظن أنها مكتملة، وهذا لا يكون من دون أن نفقد زمام التجربة المؤلمة فتصير خارج سيطرتنا، وإلا لاستهان الإنسان بهذه التجربة وقرّر إلغاءها فوراً، وهذه النقطة بحد ذاتها تجعل الخلاص من أصناف الألم انتصاراً، فهو لم يحدث بسهولة ولم يكن بيدنا دفعه بكل يسر.
يقول الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِقِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»، وبالتالي فإن وجود الألم في الحياة الدنيا لا يتنافى وقدرة الخالق ورحمته وسعة علمه سبحانه وتعالى. وكما قال أحدهم فإن «الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطويح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة».
إن هذا كله يسوقنا بطواعية ودودة للتحديق في الحكمة البالغة لله سبحانه وتعالى في الكون، بشتى تفاصيله وتعرجاته، فكيف سيكون وجود هذا الكون بلا شر؟ إن هذا لا يعني تأييد الشر أو الفرح بوجوده أو تشجيع الإقبال عليه، بل هو تحليل نقدي بسيط لإعادة وزن الأمور بعقولنا قبل عيوننا، بغية إيجاد معنى لوجودنا ولحياتنا ولما نقوم به من أفعال مهما كان حجمها في أعيننا. فالتأزمات المجتمعية والأزمات النفسية المستعصية.. كلها بدأت من فقدان الإحساس بمعنى الحياة، أي فقدان الشغف وانعدام الهدف والغاية.. ولذا نجد معظم الأطباء والاستشاريين النفسيين يستهلون أسئلتهم التكتيكية لمراجعيهم: «ماذا تفعل بحياتك؟»، و«ما أهدافك وطموحاتك؟».

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة