أكتب هذه السطور بعد مرور يومين على الحادث الإرهابي البشع، ككل الحوادث الإرهابية، الذي وقع الجمعة الماضي في ضواحي موسكو. وينطوي هذا على نوع من المخاطرة، لأن أبعاد الحادث لم تتكشف بالكامل بعد، ومع ذلك فإن ثمة ملاحظات مهمة يمكن إيرادها في سياق الانطباعات الأولية عن هذه الجريمة التي ووجهتْ بإدانة عالمية شاملة من أهم المنظمات والتجمعات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، ناهيك بمعظم دول العالم فرادى بما فيها الولايات المتحدة.
ومع أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها روسيا، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، لعمليات إرهابية أفضت إلى قتلى بالعشرات في كل مرة، إلا أن هذه العملية نُفذت في توقيت لافت للنظر، وذلك عقب النجاح غير المسبوق للرئيس فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبروز مؤشرات على تقدم واضح لروسيا في مسار عمليتها العسكرية في أوكرانيا.. وهو ما يثير احتمالية وجود دوافع خارجية لهذه الجريمة الإرهابية. ومع أن تنظيم «داعش» فرع خراسان قد أعلن مسؤوليتَه عن الجريمة، إلا أن الاختراق الخارجي وتقاطع المصالح لكافة التنظيمات الإرهابية الرئيسة عامة وتنظيم «داعش» خاصة مع بعض القوى الدولية يفتح الباب لكافة الاحتمالات، وإن كان يُلاحظ أن ردود الفعل الروسية الأولى كانت شديدة الانضباط، حيث لم يُطلق الرئيس الروسي أي اتهامات فورية، واقتصرت التقارير على الإفادة بمتابعته الدؤوبة للموقف. كما أن تصريحات ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي عندما أشارت إلى أوكرانيا جاءت على نحو احتمالي، فقد ذكر أنه «إذا ثبت أن هؤلاء إرهابيون تابعون لنظام كييف فسنقضي عليهم وعلى مسؤوليهم». وفيما بعد بدأ التلميح لتورط أوكراني محتمل بعد ما ذُكر من أن الجناة كانوا يهربون باتجاه أوكرانيا. ومن ناحية أخرى علقت المتحدثة باسم الخارجية الروسية على التبرئة الأميركية لأوكرانيا من تهمة الضلوع في الجريمة بمطالبتها الإدارةَ الأميركية بتزويد روسيا بما لديها من معلومات طالما أنها متأكدة من براءة أوكرانيا.
وكانت السفارة الأميركية قد وجَّهت قبل اسبوعين من الجريمة تحذيراً لمواطنيها بتجنّب التجمعات الكبيرة على أساس أن لديها تقارير تفيد بأن «متطرفين لديهم خطط وشيكة لاستهداف التجمعات الكبيرة في موسكو». وعلى الرغم من أن هذه التحذيرات قد هوجمت في حينه من الرئيس الروسي باعتبارها تهدف لإثارة البلبلة في توقيت الانتخابات الرئاسية، فإن فائدتها -أي التحذيرات- كونها تبرّئ الإدارة الأميركية من تهمة التواطؤ. والمعتاد في مثل هذه الحالات أن تلجأ أجهزة المخابرات المعنية إلى مصدر التحذيرات للاستطلاع عن الأدلة التي استند إليها في إطلاق تحذيراته.
وتعكف أجهزة الأمن الروسية، بطبيعة الحال، على التحقيق في الجريمة للوصول لمرتكبيها وكافة أبعادها، تمهيداً لتقرير طبيعة الرد الرادع. ويُلاحظ أنه بينما ذكر بيان تنظيم «داعش» خراسان أن عناصره عادت لقواعدها سالمة، فإن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي أعلن توقيف المتورطين وآخرين مشتبه بهم. وعموماً فإن أجهزة الأمن الروسية مشهود لها بالكفاءة، والأرجح أنها ستمسك بخيوط العملية بغض النظر عن القبض على المتورطين فيها، وبعد ذلك يبدأ تحدي القيام بالرد المناسب على الجهة التي يَثبُتُ تورطُها، بما يحفظ أمن روسيا في توقيت لا شك أنها تواجه فيه تحدياتٍ تتعلق باستقرارها وتنميتها ومكانتها الدولية.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة