تتصل الدلالة الأنطولوجية بالعلوم ذات العلاقة بتلك «الشطحات العقلية»، الساعية للاستزادة المعرفية والوجدانية فيما بعد الحسي والمعتاد، وفي ذلك اجتهد الإنسان وتعددت «مناوراته الفلسفية».

وعلى الرغم من الإمدادات المسهبة التي تلقفتها الإنسانية، من رحم التحولات العالمية المتعاقبة، من تغير كبير في ملامح الحضارة، وطبيعة الثقافة، وفحوى الاستمرارية، فإن ذلك لن يحول من دون الركون إلى «وسادة الدين» للحصول على الراحة المبتغاة، أي التغذية الروحية «الخالية من الشوائب»، إذ لم تنجح التطورات التكنولوجية وأدواتها، ولا معطيات الحداثة الغربية في شغل ذلك الفراغ الكبير المتروك على أنقاض «الإصلاحات الدينية» في القرون الماضية. بل إن ذلك، وإنْ بدا في حينه علاجاً ناجعاً، فإنه تسبب لاحقاً في تصدع عميق في قلب الهيكلة الفكرية والأيديولوجية لمجتمعات إنسانية عديدة، وبخاصة في ظل إطباق الثقل المفاجئ للمادية على صدر الإنسانية وإنسانيتها.

وفي تتبع تحليلي لوصف أحد الأعمدة الفكرية حول الحاجة الأنطولوجية للمقدس، نجد أن البروفيسور الأب يوسف مؤنس يربط بين الحالة الدينية «التدين» وبين الشوق الإنساني الذي يعبر عن سعيه مهرولاً نحو تخليد الحضور الإلهي على امتداد التاريخ، كما يبين أن الحاجة إلى الشعور الديني تمثل «شريان حياة» لدى أفراد المجتمعات، وهي لا تختلف عن الحاجة للمياه والهواء وغيرهما من ضرورات «صون الوجود» الإنساني. إن الكينونة البشرية تعيش في وعثاء متقلبة، ولا يمكن البتة أن تجد إنساناً صافية حساباته من المشاكل أو الابتلاءات، حتى وإن عاش داخل «طوق من أمل»، وبالتالي فإن ما يجعله قادراً على الاستمرار أو المحاولة على أقل تقدير مواجهاً «عطب» الحياة، هو تمتعه بروحانية بهية تسمو به فوق «طاحونة الحياة».

إن القدرة على الاستمرار لا تتحقق عبر أفكار «إقناعية» من الإنسان لذاته، بل عبر خلجات ذات ارتباط عميق مع بالعلاقة بين العبد والمعبود، لاسيما حين يتحول ذلك الارتباط إلى علاقة انجذاب وتعلق وهيام وعشق من العبد لمعبوده. إن الخطوة الأولى في سياق تصالح الإنسان مع ذاته، والسماح لروحه بالتنعم في عالم السكينة الأبدية، هي معرفة الله عز وجل، مما يعني تهذيب النفس وتزكيتها والفوز بطمأنينتها، وتالياً القدرة على التعامل مع أسئلة واستفهامات ذات علاقة بما وراء الفيزيقي.

وبتعبير أكثر شمولية، فإن القدرة على تحقيق التوازن بين الفيزيقي والأنطولوجي لدى الإنسان، سيؤول لإنتاج مجتمع أكثر جودة من حيث القدرة على استشعار وإدراك الحاجة للسلام والطمأنينة، وبالتالي سريان التوجهات الفكرية، وإيجاد حالة ثقافية وفكرية تحمل ذات الأسس التي تؤمن بالقيم المشتركة. إن ذلك التوازن من شأنه أن يأخذ الإنسان نحو اختيارات جديدة، كأن يبدل «ثوبه الذهني والسلوكي المستعار» تقليداً، بكسوة مختلفة يعرف ممَ نُسجت وكيف تكونت ولِمَ وُجدت.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة