نجحت السعادة في اختطاف اهتمام البشر، وشكلت السر الذي لا يخفى على أحد، فكل منا يخبئه في صدره ويسعى لتحقيقه ولو بماء العين.
إن تفسير الميل الإنساني المتزايد على الدوام نحو تجديد الشعور بالسعادة، ومحاولة الاستزادة منها بلا توقف، يعتبر إحدى النوافذ الرئيسة التي تنفتح بقوة مع وقوع كل بلاء أو مصيبة، لنتساءل: «ألا يمكن أن نحيا بلا ألم؟». إن هذه الفكرة لا تتوقف على الخلاص من المشاكل والتحديات وحسب، بل هي تمثل ديناميكية متداخلة مع النفس الإنسانية دائمة النزوع نحو التجدد والتطور، وبالتالي فإن الإمعان في كينونة الألم الذي يشعر به الإنسان، أو كما يسمى في الفلسفة «الشر»، يمكن أن نلحظ له وجهاً آخر ربما لم يظهر للوهلة الأولى التي ينشغل خلالها الإنسان بتفقد سلامة ذاته بعد وقوع الشر أياً كان نوعه، فالشر مهما كان قاسياً وممتداً وجائراً على الإنسان، فإنه يمثل الوجه الآخر لنقيضه، فالألم يجعلنا أكثر قدرة على تثمين الراحة والعافية، ووقوع الظلم يجعلنا مريدين وتواقين للعدل، وقسوة الحرمان تنبت بين شرايين القلب رحمةً ورأفةً بالآخر كشعور نابع من تقدير العطايا والمنح الربانية.
ومن هذا الجانب، يمكننا ملاحظة اعتلاء الفلسفة صهوة الحكمة، بعد أن كان شغلها الشاغل الحديث حول الشر كمشكلة، والربط بينها ومسألة الألوهية، إذ إن الأطروحات الفكرية كافة التي رفضت تزامن الوجود الإلهي مع وقوع الشر في الحياة الدنيا أسست وأصلت -بلا قصد- لإثبات صفات الله سبحانه وتعالى أكثر فأكثر، إذ إن الحكمة الربانية تعلو حكمة العقل البشري القاصر محدود القوة، وحاشا وجود الله، سبحانه وتعالى، من أن يتحدد في أنساق وشروط آدمية. 

لا يمكن إلغاء وجود الشر، فنحن لسنا في المدينة الفاضلة، ولا نعيش في الكوكب الخيالي الوردي، وربما أفضل ما يمكن والحال هكذا هو التسليم لا الاستسلام، أي الإقلاع عن حالة اللامبالاة، والاتجاه نحو الاستزادة المعرفية والفكرية والفلسفية التي تعين على فهم ميكانيزمات الشر. وبأقل تقدير يمكن تشبيه الحال بجهاز المناعة في جسم الإنسان، إذ إن ارتفاع الحرارة وصعوبة التنفس والارتعاش والسعال وسيلان الأنف وآلام العظام والعضلات.. كلها شرور متعبة مرهقة وأحوال مكروهة، لكنها في ذات الوقت دليل على سلامة جهاز المناعة ومقاومته للأمراض والأجسام الغريبة الدخيلة، فإن تعطل ونجونا من الأعراض المؤلمة السابقة، فستكون استجابة الجسم لالتقاط أحد الفيروسات الموت المفاجئ! 

وفي منحى فلسفي آخر، فقد طرح المفكرون سؤالاً جديداً في ذات السياق، وذلك بعد السير مع الاتجاه الذي يؤمن بضرورة الشر، أو على الأقل حتمية وقوعه، فإذا كان الأمر كذلك، فلمَ لم يُخلق هذا الشر بكينونة وهمية؟ أي لماذا لا يكون واقعاً لا محالة، لكنه منزوع الأذى والآثار السلبية؟ إن الإنسان يقدم على الدوام محاولات للقفز عن المسار الواضح والمعروف، ومن الطريف أن عقله يقوده مجبراً راضياً قنوعاً ومقتنعاً لذات الطريق الذي حاول هجره، وهذه أحد الإعجازات الربانية المدهشة في حياتنا، فإذا كان الشر في أي من أشكاله منزوع الألم، ويقع فقط من أجل تحقيق غايته والحكمة الكامنة فيه، فإن ذلك يشكل فكرةً ذكية ومذهلة، لكنه سيكون كفيلاً بانتزاع «روح» النفس الأخلاقية لدى البشر، إذ إن وقوع الشرور المحققة يكون دافعاً ومنبعاً لتدفق الصيرورة الأخلاقية والقيمية لدى البشر، من تعاون وتراحم وتعاطف وتكاتف وتسامح.. وبالتالي فإن انتزاع القيمة من الشر هو انتزاع غائية في زاوية معينة دون غيرها. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة