نولد مع حبل سري طويل، يتم قطعه والتخلص منه سريعاً، في أول مظهر من مظاهر حاجة الإنسان للاعتماد على الذات، لنستطيع بعدها إكمال حياتنا مرحلةً تلو الأخرى.. لكننا لا نولد بحبل سري للحب، فهذا متدفق في عروقنا حاله كحال الدم، فقد جُبلت فطرتنا على ذلك، طالما يبدو العقل بعيداً عن «منغصات الفطرة». 
لكن هناك كثير من الناس يضعون حجاباً يفصل بين عقلهم وقلبهم، في نوع من «تقنين» الشعور الداخلي، لا سيما ذلك المتعلق بحب الآخر، حباً يتفق مع قبوله كأخ متشارك معنا في الإنسانية، وبالتالي فإن حصر التعاطف والتسامح والود والتعارف بناءً على «كوتة» محددة يعتبر سلوكاً جائراً وجحوداً ظاهراً لفضل الله علينا بنعمة الفطرة السليمة السوية. وكما يقول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، مخاطباً البشرية: «يا أيُّها النّاسُ، ألا إنّ ربَّكم واحدٌ، وإنّ أباكم واحدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلّا بالتَّقْوى». وعليه، فإن تقدير نعمة نقاء الفطرة، وتتويجها بعقل متزن يعني رفض العنف والكراهية والتمييز والإرهاب والتطرف.. وكل صور الإساءة للغير. ونحن هنا إذا ما أمعنا النظر ووُفِّقنا في العمل، نستطيع أن نتجاوز عقدة «إشكالات تعريف الحرية»، لا سيما إذا ما بنيت العقول على معرفة سوية، مشبعة بتحفيز أخلاقي سليم. 
إن التوقف عند هذه المحطات، والإمعان في انحراف العقل البشري عن طريقه، أو ما يصاحبه من ضياع لوجهته خلال مسيرته المعرفية، يحتاج أحياناً للهجة قاسية بعض الشيء، لا توبيخاً بل تنبيهاً لحتمية التعامل المسؤول مع مقدرات الذات ومقدرات الكون المحيط بنا، والذي من خلاله يصار للإنسان أن يبدو صائباً في رحلته الممتدة وإرثه الباقي، لا سيما أن حياتنا تعج بمظاهر تجاهلنا للعقل، واستخفافنا بنعمته، رغم الإحساس الدائم بغمرة التميز والفهم والتفرد عن باقي المخلوقات.
وحتى نكون صادقين في تقدير ملكاتنا، ولكي نعزز تصالحنا مع ذاتنا، فلا ينبغي تجاهل نداءات الفطرة حيثما وجدت، وخاصةً عندما تكون هذه الفطرة سليمة وخالية من تشوهات الظروف المحيطة، ودون وجود عوائق أمام البحث الدائم عما يقومها ويقيمها. وفي ذات الوقت فإننا لا نتخذ موقفاً سلبياً، ولا نهمل ما كرس الإنسان من جهود محققاً للعديد من الإنجازات الدافعة بصون تلك الفطرة، لكنها قياساً مع الفترة الزمنية للوعي بحجم التحديات والمخاطر التي تواجهه، تعَد بطيئةً إلى حد ما، ودالةً على عدم التوافق في الوعي وتقدير المسؤولية في الإنسانية العالمية، مما يشير لفوارق عقلية واستيعابية وإدراكية لا تدل البتة على التفوق العقلي بين مجتمع وآخر، بل تشير لمدى تحفيز واستثمار وإعمال هذا العقل بين إنسان وآخر، الأمر الذي يفسر وجود نخب علمية مبدعة ومخترعة في كل مجتمع، كنجوم تسطع في سماء صافية! 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة