الإنسان الركن المكين لحضارة الكون وأهم الشروط الثلاثة لبنائها، والشرطان الآخران هما الوطن والزمن.
في القرآن سورة كاملة باسمه، من آياتها: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا»، وذكره المجرد لم ينقطع في 39 سورة، أما اللفظ المجرد من أي زوائد ورد ذكره 58 مرة.
لقد كرمه الخالق، ولكن أهانه المخلوق ليكسر بذاك قانون الكون كله والإنسان فيه هو الأثمن. وهو بالمطلق محكوم بهذا القانون «فمن قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً». 
أي حضارة بشرية تتعامل مع الإنسان المجرد من حمولات الدين والجنس واللون والعرق والقومية والطائفة وفق ذلك المبدأ الرباني والإنساني، تصل إلى مرادها في سلم الترقي الحضاري.
هذا شرط لازم، وإلا النتيجة أو الحصيلة لا تسمى حضارة وسمها بعد ذلك ما شئت، فغباره يبقى ولا يمسحه عناء السنين.
وأخطر ما يحدث في دورة الحضارات هو انهيار الإنسان قبل العمران أو البنيان، ففي مرحلة ما يمكن أن نطلق عليه «اللا إنسان» لأنه تُرتكب ضده أفعال يندى لها جبين الحيوان.
وقد تسمع أصواتاً عالية للدفاع عن حقوق الحيوان أكثر من حقوق الإنسان، بل ترى عقوقاً صريحاً للإنسان ذاته لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، خاصة في العالم الثالث.
أما في العالم ما بعد الثالث، والذي بدأ عهده من بعد «الربيع العربي» المخادع، فقد تضرر الإنسان أشد مما كان في سابق عهده.
في الوقت الذي تتقلص فيه حقوق الإنسان بالعالم الأول إلى الداخل بعد أن كان صوته علياً للترويج والدفاع عن مشروعه الديمقراطي، بدا بذلك غير مبالٍ بما يحدث في العوالم الخلفية من حروب إثنية ومجازر مخزية وأفعال تنكرها الفطرة، ولا تنكرها القوانين.
تحول بعض الناس إلى شبح إنسان يتألم لأذى قطة، ولا تقف له شعرة لقتل الملايين حول العالم، بل قد يعلق ولا يترحم عليهم تحت مبرر يستحقون مثلما تكونون يولَّ عليكم.
وعندما أدركت بعض حكومات العالم الأول بأن هناك أنظمة حاكمة في «العالم الرابع» ما عادت تعير أدنى اهتمام لشعوبها، فقد تمادت في تجاهل ما يحدث من فظائع يتبرأ منها عالم البهائم.
على الرغم من أن خيط المصالح المشتركة أصبح أقوى شكيمة وأعلى صوتاً، بل اليوم صارت أميركا أولاً، حتى لو أصبحت الصين أخيراً، ومن قبل كانتا رافعتين، إحداهما تحمل الأخرى، إذا ما خفت صوت الدولار أمام صعود «اليوان»، وقس على ذلك في بقية العوالم.
خرج الإنسان من معادلة المصلحة، وبقي شبحه سادراً بينها، وأسيراً لمتطلباتها التي تجعل منه ضحية بلا قيمة.
نذهب إلى فترة الحرب العالمية الأولى والثانية لكي نقابل «ستالين»، أحد من تلطخت يداه بقتل الملايين، ومع ذلك لأن قلبه عندما رأى أحد جنوده قادماً نحوه، وقد اهترأ حذاؤه، وتقطعت حباله وتمزق جلده، حتى خرجت أصابعه من خلاله، فاستغرب من وضعه، أليس لديك حذاء آخر؟! فأجاب: لا، فخلع القائد حذاءه، فأعطاه وهو غير مصدق منه هذه اللفتة الإنسانية من داخل هذا الوحش الكاسر، فلم يسترح الجندي إلا ازداد حماساً للعودة إلى ساحة المعركة من جديد بدل لحظة استراحة.
العالم أحوج اليوم للفتة «ستالينية» إنسانية ليعود إلى مكانه السليم في الألفية الثالثة، ويعيد الإنسان الحقيقي إلى بؤرة الحضارة، ويمسح عنه الشبح الذي يطارده.
لقد أشار مولانا -سبحانه- إلى هذه الحالة الإيجابية في محكم آياته في سورة البقرة «وإن من الحجارة لما يتفجر منها الأنهار..».
نحتاج إلى أنهار الإنسانية تخرق صلابة الحجارة التي تراكمت في قلوب بعض البشر وهم في غفلة عن الإنسان.. الإنسان كنهر متدفق، وليس الإنسان المتحجر.
*كاتب إماراتي