إن الوعي لا يمثل «عصا سحرية» لتحسس مواضع الفهم والبصيرة وحسب، بل هو طريق مختصر يوصل الإنسانَ لفهم إخفاقاته، تماماً كما يفهم ذاته ويدرك نجاحاته، وبالتالي فالوعي سبيل الاستسلام حين يكون ذلك الاستسلام من السلام والتسليم الواجب، لا سيما أنه من المفهوم والمعلوم أن على الإنسان أن يرخي يديه حين يبدأ الاتجاه في «مسار» لم يخصص لوجوده فيه.
وقد ورد تعبيراً عن ذلك مدحُ «الصمت» حين يكون محموداً ومانعاً من الوقوع في جدال حول ما ليس من وراء التفكير فيه نفع، إذ أُثر عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قوله: «لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل عدوك واحذر صديقك من القوم إلا الأمين ولا أمين إلا مَن خشي الله تعالى، ولا تصحب الفاجرَ فتتعلم مِن فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله». وأحسب أن من ذلك السبرُ في الغيبيات مما لا يعني الإنسان مباشرةً، لا سيما حين يقع في أمره ما لا تحمد عقباه، ولهذا عد الغزالي الصمتَ فضيلةً، وأوصى به لقمان الحكيم. ومَن أوتي الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً.
وليس هذا فحسب، فقدرة العقل الإنساني في باب الإدراك تقف عاجزة أمام العديد من «أبواب الوعي»، كعدم استطاعتها فهمَ ما يسمى «الاتحاد والحلول» وقول الحلّاج فيها «أنا مَن أهوى ومَن أهوى أنا»، إذ تسير بنا نحو مسارات متقدمة في التصوف بمشاربه المختلفة. كما تعجز مَلكاتُ العقل عن تفسير خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وماهية تلك الأيام وكيفيتها، وما إلى ذلك من مسائل دقيقة لا يمكن التعويل كثيراً على العقل في إدراك حقيقتها.
كما أن العقل عاجز عن إدراك الذات الإلهية، ولذلك يقول ابن العربي: «واعلم يا أخي أن العقول بأسرها قد علمت بقصورها وجهلها بحقيقة ذات باريها»، وبالتالي فلا بد من وعي قصور القدرة الذاتية، ووجود ما يتعسر مناله، واستثمار ذلك في تركيز الطاقة «العاقلة» الواعية في المجالات التي تعود على الإنسان بالفائدة.
إن الوعي بوجود حدود تحول دون اختراق الإنسان ذلك الفضاء الروحاني بتفاصيله الهائلة، بات ضرورياً في عالم وواقع يحتشد بادعاءات عكس ذلك، استنفدت من أصحاب العقول كثيراً من الجهد والوقت، وأهدرت من أعمارهم دهوراً في الجري خلف ما لا يمكن الوصول إلى القول الفصل فيه، رغم وجود ما يريح البال والخاطر بشأنه، ويأخذنا لعوالم من السلام في كتاب الله الكريم (القرآن)، ومنه قوله الحق: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون». فالمخرج من كل ذلك الضيق موجود في فسحة من الطمأنينة نجدها في كلام الله تعالى.
إن الإنسان حين يفوز بهزيمته «الراضية» وينجو من العناد النابع من الحمق، يكون قد تجاوز مسارات طويلة في كسر غربته عن نفسه، وإن الوعي بذلك سبيل ممهد للاستسلام هناك بين يدي الطمأنينة والسعادة القصوى، النابعتان من الاعتراف بقصور قدرة الإنسان، وعظمة الاتكال على العناية الربّانية.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة