المعروف في كل الدراسات والتقارير العلمية، وحتى «المبادئ البديهية»، أن خزائن الدول هي «جيوب رعاياها». وبما أن الناتج المحلي الإجمالي يعكس حجم اقتصاد الدولة ودخل الفرد، فهو يعكس «جيوب رعاياها».

وفي عام 2018، أي قبل الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، بلغت موازنة الدولة 17 مليار دولار، وكان حجم الناتج المحلي يقدر بنحو 55 مليار دولار. أما اليوم فقد بدأت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي تنفيذ موازنة العام الحالي البالغة 3 مليارات دولار، فيما الناتج المحلي يقدر بأقل من 20 مليار دولار. وهي موازنة «صغيرة» لدولة لبنان «الكبير» التي تأسست عام 1920، ويعيش اللبنانيون حالياً العام الرابع بعد المئة على تأسيسها.

ومع الأخذ بالاعتبار مخالفات عدة، ارتكبتها الحكومة ومجلس النواب، في إقرار موازنة مثل هذه، فهي تتكون من مجموعة رسوم وضرائب لتأمين إيرادات تغطي نفقات جارية، معظمها لرواتب وأجور الموظفين ومستلزمات إدارية، فيما تمثل النفقات الاستثمارية فقط نسبة 6.7 في المئة.. وذلك وسط شكوك حول عدم قدرة المؤسسات الحكومية على الجبائية، نتيجة «التهرب الضريبي» الذي قدرته أرقام وزارة المالية بما يتراوح بين 1.2 مليار دولار و1.65 مليار دولار سنوياً بين العامين 2010 و2019، أي بمعدل 1.425 مليار دولار سنوياً.

وربما يكون قد تجاوز ملياري دولار سنوياً خلال عامي 2022 و2023. وفي سياق موجة الاعتراضات المتزايدة، تقدم فريق نيابي بطعن على قانون الموازنة أمام المجلس الدستوري، الذي قرر تعليق مفعول 4 مواد رئيسة تتعلق بضرائب ورسوم، بما فيها الرسوم البلدية، وضريبة استثنائية على المستفيدين من أموال الدعم التي أنفقها مصرف لبنان، على أن يصدر المجلس قرارَه النهائي في مدة أقصاها شهر واحد من تاريخ تقديم الطعن.

وتكمن الخطورة في رؤية المجتمع الدولي للبنان بوصفه بلداً منهاراً مالياً واقتصادياً واجتماعياً، وعاجزاً عن وضع خطة للنهوض وتطبيق الإصلاحات التي طلبها صندوق النقد الدولي، مما أفسح المجال واسعاً لتعميم الفوضى على الصعد كافة، الأمنية والقضائية والإدارية والمالية والتجارية.. وبالتالي خلتْ الساحةُ للأنشطة غير الشرعية، ونما «الاقتصاد الأسود» على حساب الاقتصاد الشرعي، خصوصاً في ظل تعميم «دولرة الكاش» الذي أصبح يمثل نحو 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

واللافت أن مَن يقرأ تقرير الموازنة الذي وضعته وزارة المالية، يلاحظ أنه يتضمن أهدافاً من قبيل: تخفيض النفقات غير المجدية، وتوفير الخدمات العامة للمواطنين، وتأمين استدامة القطاع العام، ولجم التهرب الضريبي، ومكافحة التهريب، وتعزيز السياحة، وتنشيط حركة الصادرات، وإعادة الاقتصاد إلى خارطة النمو الحقيقي المستدام.. في حين أن هذه الموازنة لا تلامس مشكلات لبنان الأساسية، وتفتقر لفلسفة اجتماعية ولرؤية اقتصادية، ولا تتضمن أي ترجمة أولية لخطة تعافٍ، أو أي خطة إنقاذ، ولا تلحظ أي مؤشرات مهمة للإصلاحات البنيوية التي تم التفاهم عليها مع صندوق النقد الدولي. حتى أنه لم يظهر في الموازنة أي أثر يذكر لمواجهة الفقر المتنامي، والبطالة المتفاقمة، والهجرة التي تضاعفت إلى نحو 200 ألف لبناني العام الماضي.

والأخطر من كل ذلك أن قانون الموازنة الجديد تجاهل تماماً ضرورةَ إعادة هيكلة الدَّين العام الذي يزيد على 95 مليار دولار، ومعظمه يعود لودائع الناس في المصارف التجارية، التي أودعتها البنك المركزي، الذي أقرضها بدوره للدولة. وتحاول الحكومة القولَ بأنها خسائر يجب شطبها، رغم أن مجلس شورى الدولة أكد بقرار رسمي أنها حقوق للمودعين، وهي دين على خزينة الدولة يجب تسديده لمستحقيه.

*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية