يرتبط العقل بالعديد من المفاهيم التي تشترك معه في تكوين الجدليات والدلالات، وتستمر العلاقات في هذا الاتجاه حتى تقف عند «الوعي»، لتعبر عن نتاج مكثف وخلاصة مفيدة لصيرورة «دورة حياة العقل الإنساني»، ومنتجات التفكير، وتحديد مرحلة الإدراك الحقيقي عنده. وحين يقال في الدارجة العامية: «المكتوب مبين من عنوانه»، فذلك يشير لتوقع واضح المعطيات والأسباب. وكذلك الحال بالنسبة لقياس القدرة العقلية الحقيقية على الاستفادة من حصاد ما اكتسبته من معارف، وما احتكت به من ظروف، وصولاً إلى الوعي (Consciousness).

ويحتل هذا الموضوع حيزاً نابضاً في التفكير الفلسفي باعتباره أحد أهم «الحبكات» في الفلسفة العقلية، لما له من دور محوري في بناء العمليات العقلية، مما دفع للعناية به في العديد من فروع المعرفة، لا سيما المتداخلة «مباشرةً» مع صناعة السلوك وتوجيهه. لذا نجد أنَّ الوعي درسٌ متزايد الأهمية في العديد من الحقول الفكرية والبيولوجية الحساسة.

وحين كان الوعي بناءً مشيداً في حلته الكبرى، من لبنات تؤسسه وتكمل صورتَه الفسيفسائية الكبرى، فقد عني العديد من الفلاسفة بالسبر في أبعاد ما يسمى «الفلسفة العصبية» المنسدلة من الفلسفة العقلية بصورتها الكبرى؛ إذ مثل الفيلسوف بول تشيرشلاند عقلاً منفرداً بدراسة التفسير الحسي «العصبي» للخبرة الواعية بأنواعها، من مثل الخبرة المكتسبة من خلال أعضاء الحس، أي الإبصار والشم والتذوق.. إلخ، وصولاً إلى تفسير الوعي كمفهوم، وتمييز الأنواع التي قد يكون عليها مع الإشارة لخصائصه، وبالتالي مثّلت الفلسفة العصبية مزيجاً جامعاً بين الحس الفلسفي (العقل) والعلم العصبي (المخ). وبالنظر إلى الوعي، يمكن اعتباره تعبيراً عن ذاتية الخبرة الواعية، كما يعبّر عنها الفلاسفة، وهو الأمر الذي يفسر اشتراك الإنسان مع الحيوان في وجود الوعي، لكن بتفاوت طبيعة ذلك الوعي، إذ هو نتاج للتفاعل العصبي بين «المحرضات» المحيطة وبعض العوامل والمؤثرات الذاتية.

لكن هذا لا ينفي «محدودية» وعي الحيوان المبني على الاستجابة للغرائز، بينما يمتد وعي الإنسان ليتجاوز تلك الغريزة بحد ذاتها، وإعادة التفكير فيها، مما يستجيب للدور الذي وجد من أجله هذا الكائن البشري. إن الاهتمام بالوعي ومحاولة استيعابه بصورة صحيحة، يمثل موضع عناية مسؤولة للمنطلق الأول للأفكار والإبداعات والإنجازات الإنسانية، إذ يستحيل أي تقدم مبني على حركة كامنة أو ظاهرة بلا «وعي».

ومن شأن هذا السعي أن يجعلنا أكثر قرباً مما نصبو إليه من تجاوز الإشكاليات، والإجابة عن الجدليات، لا سيما ذات العلاقة بالعقل والإدراك الإنساني، ابتداءً بـ«ألفبائيات» التفكير الإنساني، وفهم الارتباطات العميقة بين كل من النفس والروح والجسد، والقدرة على احترام مقال ومقام كل من معطيات الجدل، ووضعه في سياقه الصائب. فهل سنبقى في سياق تقرير مادية أو طبيعية هذا الوعي، أم سننتقل -وبخاصة في ظل الإثباتات التي تقدمها المختبرات العلمية، إلى آليات الوعي واستراتيجيات صناعته المبدعة؟

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة