لا يمكن إنكار دَور عوامل التنشئة الأولى وأدواتها في تهيئة وتحضير العقل الإنساني لاستقبال العديد من المؤثرات والظروف، لا سيما في نطاق المدرسة الأولى (الأسرة)، بغض النظر عن العوامل الأخرى التي قد يرافق تأثيرُها الشخصَ طوال حياته. 
وفي الظرفية المتشابكة التي لا تخلو من ألوانها حياتُنا، نجد أننا نتجه لحاجة «تكوينية» كانت مخصصة كما اعتدناها لمراحل عمرنا الأولى، وبالتحديد السنوات الخمس التي تلي الولادة، فهي الحقبة الذهبية في عمر أي إنسان منا، إذ تتشكل خلالها أكثر من مليون رابطة عصبية في الدماغ في كل لحظة، وهذه سرعة في التقدّم لا تتكرر البتة في حيان الشخص، الأمر الذي دفع لإطلاق العديد من المبادرات والبرامج المرتكزة على تنظيم وبناء استراتيجيات للعناية بالطفولة المبكرة. 
إن استشعار الحاجة للتجديد في نظرتنا تجاه تنمية بذرة العقل الإنساني، واحترام أطوار نمو دماغه، تتشابه إلى حد كبير بمحاولة التحرر من العوز الفكري والثقافي والعلمي لتحديد ماهية «التقديس» والمقدس، إذ تتشبث الكثير من الفروع والخيوط المتشابكة في أدمغتنا «كل حسب مجتمعه وبيئته»، ولا تتركه حتى تتأكد من إحكام قبضتها على نهاياته العصبية التي نرمز لها بـ«العقل». فاليوم، وبالرغم من التقدم المحمود والتحول النوعي في فهم ماهية العقل الإنساني و«مغذياته»، فإن هناك العديد من «العوالق» الفكرية ذات الصلة بالعادات والتقاليد. ولا أعني هنا أبداً تلك الموروثات الثقافية والعاداتية الأصيلة، التي تعكس هوية مجتمع ما وعراقته، ولا تلك التي تزيد من ترابط المجتمع وإحساسه بهويته وتثبّت من معتقداته، بل أقصد موروثات العادات مفرغة الجدوى، وتقاليد اجتماعية بعيدة عن احترام مكنون العقل، مثل الحرمان من التعليم، وتعنيف المرأة، والثأر، والإساءة لمقدرات البيئة، والكثير من الآفات الاجتماعية ذات الاتصال المباشر بالبناء القيمي والأخلاقي، والاستخدام الجائر لحيز العقل الإنساني عبر تعبئته بأفكار، أو تصرفات تنعكس سلباً على صحة الإنسان النفسية والبدنية والعقلية.
ومن ذلك تقليد تنتهجه إحدى قبائل منطقة الأمازون قبل إعلان رجولة الشاب، تقتضي تعريضه لـ«جلسة» مكثفة من اللدغ شديدة الألم، بشرط بقائه ثابتاً دون نزول أي دمعة، وبالتالي فأي عقل يتحمل اعتبار «اختبارات النمل الرصاصي» القاسية والمعروفة بشدتها شرطاً أساسياً لقبوله في درجة الرجولة؟ وما الذي ينتظر من عقل بُني على الاحتفال بالألم، وإهمال التعبير عن مشاعره الحقيقية؟ وما جدوى ابتداء مرحلة الرجولة بالعنف؟
إن التقديس المعطى لكل ما هو غير مقدس، من أفكار وعادات و«حجج» لا بد أن يندثر من حياتنا حتى نستطيع العيش بسكينة نفسية، مبنية على سلامة عقلية، لا سيما أن العقل والتمييز هبة ربانية فارقة للإنسان عما سواه من مخلوقات الله، عز وجل، فكيف تقدم قوة فكرة (عادة) على قوة أساس (العقل)؟
إن الخطوة القويمة تكون بصناعة العقل، لا اصطناعه، وبتقويم أدواته لا تقنينها، وبتجميع حروفه الأصيلة لا تشويها أو التلاعب بها.. وبالتالي تحرير العقل الإنساني من قيوده الوهمية، وإطلاق عنانه عقلاً أخضر يانعاً محباً للحياة، ومتطلعاً إلى المعرفة.. فأهلاً بكم في عالم الاحترام والتقدير وحسن التكوين.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة