في عصر  التي تحرّكها التكنولوجيا، فإن تعزيز القدرات العسكرية الذي يتوقعه «الناتو» سيتطلب تحديثاً وتوسيعاً هائلين للقوات التي تقهقرت على مدى أكثر من 30 عاماً هولندا بلد سياحي صغير، وهي أصغر مساحة من ولاية فرجينيا الغربية، ولكنها سبّبت للاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة مشاكل جمة، إذ عمدت قواتها المسلحة التي تتمتع بقدر كبير من الفعالية والكفاءة إلى نشر زهاء ألف دبابة، بما في ذلك المئات من الدبابات عالية الجودة المصممة لمساعدة حلفائها في «الناتو» على مقاتلة السوفييت آنذاك في السهول الألمانية الشمالية. ولكن بعد عقدين من انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991، انخفض مخزون الدبابات العاملة في هولندا إلى الصفر - وهو مثال صغير على عملية نزع السلاح وتقليص حجم الجيش الضخمة التي شهدتها أوروبا بعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها. ولعل هذا ما حدا بقائد دبابة هولندي للقول في حفل أقيم في 2011 بمناسبة سحب آخر المدرعات المجنزرة من الخدمة قبل بيعها: «إن هذا يبدو شبيهاً بجنازة».

الرجل الذي تولّى منصب رئيس وزراء هولندا قبيل أن تقوم بإخراج آخر دباباتها من الخدمة، «مارك روته»، هو المرشح الأوفر حظاً لرئاسة حلف الناتو، الذي بات مرة أخرى عالقاً في اختبار طويل الأمد للإرادات مع الكرملين. والسؤال الأكثر تكراراً، هنا في مقر «الناتو» في بروكسل، هو كيف يعتزم «روته»، الذي سيغادر منصبه قريباً باعتباره رئيس الوزراء الذي خدم لثاني أطول فترة في أوروبا، التعامل مع ما يعتبره الكثيرون اثنين من التهديدات الخطيرة في حال اختير لقيادة الحلف؟. التهديد الأول هو الخاصرة الشرقية الضعيفة للناتو.

أما التهديد الآخر، فهو شبح ولاية ثانية لدونالد ترامب، الذي ازدرى الحلف، وهاجم أعضاءه الذين ينفقون مبالغ زهيدة على الدفاع، ونسف سبعة عقود من عقيدة الردع التي أسس لها «الناتو» عبر تهديده بعدم مساعدة حلفاء واشنطن الأوروبيين «أبداً» في حال تعرضهم لهجوم. عندما زرتُ مقر«الناتو» الربيع الماضي، كان الجميع مركزاً على أوكرانيا، إذ أخبرني سفير إلى الحلف بأن «كل نقاشاتنا تدور حول ترامب».

ومع أن هذين التهديدين مختلفان إلى حد كبير، إلا أن تأثيرهما المتشابك والمتداخل يدفع البلدان الأوروبية الأعضاء في «الناتو» إلى الانخراط في عملية إعادة تسلح تاريخية. ونتيجة لذلك، أخذ إنفاقها الدفاعي الجماعي، الذي بدأ في الارتفاع تدريجياً بعدما سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم قبل عشر سنوات، يتسارع الآن بشكل كبير.

غير أن قليلين يعتقدون أنه يزداد بسرعة تكفي لتمويل خطط الحلف المفصلة إلى حد كبير، والتي أُعيد رسمها لحروب إقليمية - 4 آلاف صفحة من الوثائق السرية التي صيغت تحت إشراف الجنرال الأميركي كريستوفر كافولي، القائد الأعلى لقوات التحالف في أوروبا. هذا العام، من المتوقع أن تحقق 20 دولة من أعضاء حلف «الناتو» البالغ عددهم 31، بما في ذلك الولايات المتحدة، هدف الإنفاق الدفاعي للحلف أو تتجاوزه، والمتمثل في 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الذي حُدد قبل 10 سنوات من الهيمنة الروسية على جزيرة القرم. وهو ما يعكس نحو 450 مليار دولار من الإنفاق الإضافي على مدى عقد من قبل شركاء واشنطن في «الناتو» - وهو رقم يطيب للحلف الترويج له، ولكنه لا يمثّل سوى 4.25 في المئة من متوسط الزيادات السنوية.

ويعتقد كبار مسؤولي «الناتو» أن التهديدات الاستراتيجية المتزايدة ومخططات الحلف الخاصة للدفاع عن حدوده تستوجب التزاما أكبر من ذلك بكثير. وهم يناقشون حالياً زيادةً في الإنفاق العسكري الجماعي من قبل أعضاء الحلف من غير الولايات المتحدة تعادل الثلث على أقل تقدير، وذلك من أجل تعزيز خمسة مجالات رئيسية هي: الدفاع الجوي والصاروخي، والقوة النارية طويلة المدى، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والخدمات اللوجستية، والقوات القتالية البرية الثقيلة.

غير أن عملية تعزيز القدرات العسكرية هذه على مدى عقد أو أكثر من شأنها إثقال كاهل الدول الأعضاء في «الناتو» من غير الولايات المتحدة بفاتورة تناهز 100 مليار دولار سنوياً، الأمر الذي يتطلب تحولاً سياسياً واقتصادياً ونفسياً هائلاً.

والأرجح أن ذلك سيعني تقليصاً لبرامج الرعاية الاجتماعية السخية في أوروبا، كما يمكن أن يُضعف الجهود المكثفة التي تبذلها من أجل تقليص الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري إلى الصفر بحلول 2050، والتي يقول مسؤولون أوروبيون إنها قد تكلف 1.6 تريليون دولار سنوياً. والواقع أن أوروبا تتمتع بموارد مالية كبيرة، ولكنها ليست كبيرة بما يكفي لتحقيق تلك الأهداف العسكرية والاجتماعية والبيئية بشكل متزامن.

والحقيقة أن مواجهة أعداء «الناتو» لا تترجم إلى جيوش بحجم جيوش الحرب الباردة، عندما كان لدى الدول الأوروبية الكبرى مئات الآلاف من العسكريين. غير أنه حتى في عصر الحروب التي تحرّكها التكنولوجيا، فإن تعزيز القدرات العسكرية الذي يتوقعه «الناتو» سيتطلب تحديثاً وتوسيعاً هائلين للقوات التي تقهقرت على مدى أكثر من 30 عاماً.

وهذا سيشكّل أولوية قصوى لـ«روته» إن اختير لخلافة «ينس ستولتنبرغ» باعتباره أميناً عاماً مقبلاً لـ«الناتو». وفي المرتبة الثانية على سلّم الأولويات، يأتي، في حال أعيد انتخاب ترامب، تدبير العلاقة مع رئيس متقلب - وهي مهمة قد يكون «روته»، الذي استخدم كلاً من الإطراء والحزم في التعامل مع ترامب حينما كان زعيماً للبلاد، مؤهلاً جداً لها.

لي هوكستادر* 

*كاتب وصحافي أميركي متخصص في الشؤون الأوروبية

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»