رجحت كفة الميزان مع الوسائل الجديدة المرتكزة على عصب «التقنية»، في اختراق جسد التحديات التي تحجرت في الماضي عند عتبة الوقت، في حين أرخت حبالها المتعلقة بـ «جودة التواصل» بين بني البشر ذاتهم. ففي حين قام التواصل الإنساني على لغة واضحة فحواها الكلمات والعبارات والأمثال المسرودة المفهومة، وما على شاكلتها، فإن التواصل الجديد بات يأخذ شكلاً مختلفاً مع تزايد موجات «المخاض الإلكتروني»، لا سيما على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ باتت الرموز التعبيرية، و«مختصرات الحروف»، و«قافية التريندات».. تحتل مكاناً بديلاً مكوناً من «خربشات الصيحة» التي لا يزال من العصي فهمها على شريحة واسعة من المثقفين والأكاديميين ذوي الاهتمامات العريضة، باستثناء هذا الحيز.
إن الانخراط في مثل هذه الممارسات التي بات عصر الذكاء الاصطناعي يطرح نماذج مختلفة منها، أنتج قوقعة كبيرة يختبئ بداخلها أفراد المجتمعات، هروباً من التفاعل البشري المباشر. وربما ساهمت الظروف والتحولات في إذكاء لهيب «السطوة الانعزالية»، فجائحة كورونا - على سبيل المثال لا الحصر - لم تلزم العالم بالتباعد الجسدي وحسب، بل وضعت كافة شرائح المجتمع قسراً تحت مقصلة الابتعاد والانفصال الجغرافي، والقلق من نقيضه، جاعلةً منه قيمة جوهرية لصون السلامة العامة وللحفاظ على المنظومة الصحية الفردية والمجتمعية، مما تسبب - بتشجيع من «التوسع التكنولوجي»- في تراجع ملحوظ للعديد من المهارات الاجتماعية التي يعد نقصها أحد أهم أسباب «وباء القلق» الاجتماعي.
إن الالتفات للأثر المترتب على استخدام التكنولوجيا ومعطياتها على العقل الإنساني، وطريقة التفكير، وتوجيه الرؤى، وتحوير الأهداف.. يجعلنا نضيف حقيبة إلزامية إلى جانب تلك الساعية للاستزادة من المهارات الرقمية، حاملة التعليمات والمحاذير والمبادئ التي من شأنها تحييد المستخدم عن المحتوى المغذي للنزعات النفسية «الممْرضة»، كتلك التي تركز على تغذية الفردانية، أي الاستمرار في جلد الذات وتقييدها في قفص المقارنات التي لا تنتهي، وبخاصة أن عالم التواصل الاجتماعي، بمرتاديه من مؤثرين ومستهلكين، يقدم للمتابعين «وجبات محتوى» مطهوة جيداً في معايير تناسبهم وترضي تطلعاتهم. وهكذا أصبح العقل الإنساني أمام مهمة «شبه مستحيلة» عند «التقييد بالتقليد»، مما ينعكس على صحتنا العقلية والنفسية والبدنية، على هيئة حطام من الاكتئاب، وتشتت الأهداف، ومشاعر الفقد المتعلقة بتقدير الذات.. مما لا يمكن إهمال تبعاته على التماسك المجتمعي.
إن استشعار السلبيات، على غرار تقدير الإيجابيات المنبثقة من فوهة «بركان التكنولوجيا» الذي لا تهدأ حممه، ينطوي على العديد من الإجراءات الفعالة في تطويع كل ثروة للاستفادة منها بتوازن واعتدال غير مخل، كي تبدأ «التربية التكنولوجية» في اتخاذ حيزها السليم عبر مبدأ «لكل مقال مقام يناسبه»، وتالياً في طرح ما يتعدى تعلم التقنية وأقسامها للتعرف على مخاطرها وسبل التعامل مع محتوياتها، لإبعادنا عن «هوة الأمراض التكنولوجية» وتداعياتها النفسية والاجتماعية.
وفي خضم تعدد منابع التأثير المتوجهة للعقل، والمساهِمة بشكل مباشر في تكوين شخصيته وتوجيه سلوكه، فإن الحاجة باتت ماسة الآن لإعادة برمجة العقل بشقيه، الواعي واللاواعي، على الانتقاء الصحيح والنقد البناء بدلاً من «الانفتاح غير الممنهج» على زخم الدفق المعلوماتي الذي تواجهه حواس الإنسان ولا تكاد تنتهي من حالة الدهشة المتجددة على مدار الساعة، لا سيما في ظل صعوبة الابتعاد المطلق عن هذه المنصات و«أبناء» التقنية «سريعة التكاثر». وبالتالي فالرهان رهان وعي واحترام للذات ومكنوناتها.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة