العالم العربي والإسلامي على وجه السرعة، بحاجة إلى «التنمية الإنسانية»، لأن المسافة بين الروح والجسد بدأت تتسع، بل وأصبح الخرق أوسع من قدرة الترقيع على الرتق.
يرتقى الإنسان عبر أنهار الفلسفة والأدب وجماليات المشاعر الدفاقة، بعيداً عن مفردات التنمية بوجهها المادي. فعلوم الفلسفة والمنطق والاجتماع وعلم النفس وتاريخ الحضارات البشرية تضفي على روح الإنسانية حقيقة الوجود، وأهمية تشبيك خيوط الإنسانية لتتحول إلى بحار من المحبة تفيض على المحيطات، ولا تقف عندها.
نقول هذا، في الوقت الذي بدأنا نسمع عن هجرات ضخمة لمناهج بناء الإنسان بشكل عام، وهي خطوة تقصم ظهر الإنسانية وتعيدها إلى عكس تيار الحضارة التي لا تبنى إلا على أكتاف المثل الإنسانية، فالتنمية فيها مكسب لا تقدر بالدرهم والدينار، بل بقدر تعميق جذور القيم الإنسانية المشتركة التي من خلالها ترتقي الأمم.
نضرب مثلاً، بالمناسبات السنوية والدينية للشعوب التي تحتفي بها وترغب بمشاركة الآخرين بها بصورة أو أخرى، ماذا نجد أثناء الحدث الذي يصعب إلغاؤه لأنه جزء من الموروث الشعبي والثقافي للأمم أو الديني للبعض، وهنا بيت القصيد، أو المنطقة الرمادية التي يستطيع كل صاحب دين أن يلعب فيها وفقا لمنطلقاته الفكرية، فقد يخرج الأمر من نقطة التقبل إلى التحول المضاد، فيختفي البعد الإنساني، بعد أن تُطل حمولات أخرى تتخذ مواقف متشددة.
أذكر الآن المواقف التي مررت بها عن قرب، هنأت بعض المقربين بمناسبة رأس السنة الميلادية، فردوا علي بأطنان من الفتاوى المفصلة على مقاس قرون مضت ولن تعود.
هنأت آخرين، فقرؤوا في أذني هامسين، هذه مناسبة لا تخصنا كمسلمين، فقلت لهم: هذه كلها في النهاية أيام الله، وليس أيام الناس، قال تعالى «و تلك الأيام نداولها بين الناس» وهؤلاء ناس، والله رب الناس، وليس رب المسلمين فحسب.
وهنأت فريقاً ثالثاً، فلم أعرف شيئاً من رده، فقلت لهم: هذه تهنئة عامة، نفصح عنها علانية ولا نتوارى في أثناء تقديمها. أما أهل المناسبة المعنية فقد ازدادوا بشاشة، لأننا قدمنا شيئاً من المبادئ الإنسانية من أجل إيصال معنى جميل إلى قلوبهم، ممن يشاركوننا المأوى والمسكن، فهل يصح الصمت في مناسبة تحيي المعاني الإنسانية البعيدة عن الحمولات الدينية.
تَصدّق أمامي رجلٌ على آخر هندوسي الديانة، فقال: أعطيته كإنسان، وليس كهندوسي، ولم يطرأ دينه على البال.
نقول هذه الإشكاليات، التي تقع يومياً في حياتنا لا تحتاج رؤى متصلبة، بل لمسات إنسانية، ومواقف بعيدة عن التصنيفات الحدية، إلى منطقة السماحة والرحمة، ولا يتم ذلك عبر خطوط الملحمة، بل عبر شبكات المرحمة الإنسانية الشاملة، المتوفرة في ثنايا العلوم الإنسانية التي تغذي النفوس والأرواح باتجاه السماحة.
وإذا أردنا أن نؤصل كل ذلك، وفق قواعد التسامح في شريعتنا الإسلامية الغراء، فكل ذلك يقع تحت بند «الفقه الاجتماعي» العامل المساعد على التعايش السلمي بين منمنمات المجتمع كافة في محيطه الإنساني الأعمق.
*كاتب إماراتي