في الرابع من يناير 2006 رحل عنا المغفور له الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم، طيب الله ثراه، وقد سبق أن نلتُ شرف الالتقاء به عدة مرات، لكن للقاء الأول في عام 1981 قصة خاصة، إذ كنتُ حديث التخرج، وكان السعي للحصول على أرض سكنية من الأولويات بالنسبة لي، وكلما فكرتُ في زيارة الشيخ مكتوم كنتُ أتردد فأقدِّم رجلاً وأؤخِّر أخرى.
علِم بحالي صديقٌ، وكان صاحب تجربة في التعامل مع ديوان الشيخ، فحمّسني للقدوم عليه قائلاً: «بوسعيد حيي كريم لا يرد أحداً»، فذهبتُ والتقيتُه بالفعل وعرضت عليه حاجتي فلم يتأخر عنها لحظة. وقد علّمني صديقي هذا بروتوكولَ التعامل مع الشيخ بكل تفاصيله. تحركتُ نحو قصر زعبيل، وقت الغداء، لأطرح حاجتي عليه. وجدتُ بعض الناس عند المدخل على كراسي خشبية، مما يتوفر في بيوتنا، قلتُ في نفسي إن هذا التواضع في أثاث القصر ينم عن قلب يحمل في ثناياه الطيبة والأريحية. ولم تمر لحظات حتى لاحت في الأفق سيارة الدفع الرباعي وهي تدخل القصر بهدوء، فترجل منها الشيخ مكتوم داعياً ضيوفه لتناول الغداء، وصادف مكاني بجواره، ولاحظ أني جديد على مجلسه وأني ممسك عن الطعام هيبةً منه، فأراد أن يخفف عني أثر الشعور بالهيبة أمامه والتصرف بلا تكلف، لذا حثني على تناول الغداء دون تهيب. بعد وقت وجيز نهض قائلاً: «ما حد ينش، هذي طبيعتي في الأكل»، ثم انتقل إلى المجلس الرئيسي، لتبادل الأحاديث الودية مع الضيوف.
وكان صديقي قد أوصاني أن لا أنتظر كثيراً، فبعد أول شخص يفرغ من الحديث مع الشيخ، أكون التالي بعده مباشرة، فتحينتُ الفرصة، وكان المتحدث إليه أحد البدو ممن يمارسون صيد القنص بالصقور، والشيخ في قمة السعادة لأن الصيد من هواياته المحببة.
تشرفتُ بالجلوس عنده، وبعد التحية والسلام سكتُّ حتى بادر هو بالحديث لإذابة الجليد بيننا. سألني عن اسمي وعن حاجتي، فانطلقتُ في الحديث معه بأريحية لم أعهدها في نفسي من قبل. بدأتُ أشرح له عن وضعي الاجتماعي قائلاً: طويل العمر، لقد عقدتُ قراني حديثاً، وأحتاج قطعةَ أرض لبناء بيت الأسرة. سألني: قدمتَ طلباً لدى البلدية؟ قلت: نعم، طويل العمر، لكن لم أتلق الرد.
قال: مر على الديوان يوم الاثنين الساعة العاشرة صباحاً. قلت: طال عمرك، يمكن آيِ الساعة عشره وما حصلك، وأنا موظف ويصعب عليّ الخروج في بعض الأوقات، وأدرك جيداً كثرةَ مشاغلك والتزاماتك! فتبسّم من قولي ضاحكاً: تعال وبتحصلني. وصلتُ إلى الديوان قبل الوقت المحدد، وكانت عيني لا تفارق ساعة الحائط، فسمعتُ بعض الهمهمات: الشيوخ وصلوا، وإذا بعقرب الساعة يشير إلى العاشرة بالضبط. لقد أكبرتُه في عيني، لهذا الانضباط في زمن قل مَن يقدّر فيه ثمن الوقت.. فإذا به يؤشر ناحيتي، ولم أدرك في بداية الأمر أني المعني، فقمت إليه وأجلسني بجانبه قائلاً: شو في خاطرك؟ فقلتُ له: أنا الذي تشرفت بالغداء معك بالأمس. فضحك قائلاً: من أمس إلى اليوم مروا علي عشرات الناس أتذكر منو واللا منو؟ فاختصرت حديثي، ثم طلب مني العودة إلى مكاني. وما هي إلا لحظات، فإذا به ينادي بصوت مسموع: ناصر.. ناصر.. فلم يرد عليه أحد، حتى الذين من حوله نادوا على ناصر هذا من دون أن أعرفه! بعد مغادرة الشيخ المجلس، رأيتُ بعض المعارف فسألتهم عن ناصر، فقالوا: مدير مكتب الشيخ، وهو الذي يسجل الطلبات.
بعد ذلك بأيام كنتُ أقلِّب صفحات إحدى الجرائد المحلية، فإذا بخبر خاص حول قائمة بأسماء الذين وافقت البلدية على منحهم الأراضي السكنية، فحمدتُ الله تعالى وتذكرت الشيخ مكتوم ووجهه الخيّر عليّ، ومن بعد ذلك كنتُ أحرص على حضور مجلسه كي أتلقى دروسَ الحياة بين يديه.

*كاتب إماراتي