في عام 1806 فرض الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت حصاراً على بريطانيا سمي «الحصار القاري» عبر حلف ضم كلاً من السويد وروسيا وبروسيا، أُوقف على اثره تصدير البضائع من تلك الدول إلى بريطانيا ومُنع الاستيراد منها في المقابل، وكان أهم منتَج أنهك نقصُه بريطانيا وتسبب في هزائمها المتتالية أمام هذا الحلف السياسي الاقتصادي الذي استمر سبع سنوات هو القمح.
واليوم، ومنذ عام 2020، يواجه العالم تحديين مهمين أمام سلاسل الإمداد الغذائية بشكل عام، والقمح بشكل خاص، فجائحة كورونا التي انطلقت من الصين، وانتشرت في كل أنحاء العالم توقفت بسببها سلاسل التوريد عن العمل، وتوقفت الشركات الكبرى عن الإنتاج مع اتساع رقعة أزمة الجائحة، وما كاد العالم يتنفس الصعداء بعد انحسار المخاطر المدمرة للجائحة وتعافي سلاسل الإمدادات الغذائية حتى تفجرت أزمة أخرى هي الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت في 24 فبراير 2022 وأثّرت بشكل مباشر على إمدادات القمح إلى أفريقيا والشرق الأوسط بشكل خاص، لترتفع معها أسعار النفط والغاز وتتقلب أسواق الأسهم، كون الخدمات اللوجستية والنقل أحد أهم القطاعات الرئيسة التي تتطلب الطاقة والوقود. وعلى أثر هذه الحرب أصبح العالم يواجه أزمةً في غاية الخطورة، وهي أزمة القمح، إذ تشكّل روسيا وأوكرانيا مصدراً لنحو ثلث إمدادات العالم من القمح. وقد تبوأت روسيا في عام 2017 المرتبة الأولى عالمياً في تصدير القمح، تليها أميركا، ثم كندا ففرنسا، فأوكرانيا.
والحرب الروسية الأوكرانية ليست محصورةً في رقعة جغرافية بين قطبين متحاربين، بل الأخطر هو امتداداتها الاقتصادية لتشمل رقعة جغرافية أكبر هي رقعة انتشار القمح نفسه، وهذا ليس من باب المبالغة حين نستحضر حادثتين استخدمت فيهما روسيا القمح كأداة لإدارة علاقاتها الخارجية، الأولى حين حظرت موسكو بعض الواردات الزراعية من تركيا بعد إسقاط الأخيرة طائرة عسكرية روسية على حدودها سوريا في عام 2015، فأصبحت بعدها تركيا أكبر مستورد للقمح الروسي في عام 2019 إثر موافقتها على عبور الغاز الروسي إلى أوروبا.. والثانية حين تلقّت موسكو النفط الإيراني كجزء من برنامج النفط مقابل الغذاء أي مقابل بيع القمح إلى إيران، فالقمح هو نفط روسيا الجديد كما وصفه بعضهم!
إن لم تكن أزمة القمح قد ظهرت آثارها الكبرى حتى اليوم فهي قنبلة موقوتة وأزمة قد تتفاقم في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، ذلك أن بعض الدول المصدِّرة للقمح امتنعت عن تصديره، وقررت إبقاءَه حبيسَ المخازن خشية تعرض أمنها الغذائي للخطر مع تصاعد الأزمة، وارتفاع الأسعار عالمياً.
وفي ظل المشكلات البيئية، كالجفاف ونقص منسوب المياه، يبدو أن أزمة القمح أصبحت في الواقع أبعد من كونها أزمة غذاء مرحلية أو جزءاً من توترات سياسية، ذلك أن الأزمات البيئية، مثل الجفاف والتصحر وشح المياه والتغير المناخي.. تنعكس بشكل مباشر على إمدادات الغذاء العالمية. وأزمة القمح ليست مجرد أزمة اقتصاد وغذاء، بل هي أيضاً أزمة مياه، إذ يستهلك المنتج من الرغيف اليومي مئات لترات المياه، وعند احتساب كمية المياه المستهلكة خلال إنتاج رغيف خبز واحد يتم الأخذ في الحسبان المياه المستخدمة في الزراعة، وتلك المستخدمة في العجن والخبز، حتى يصل رغيف الخبز إلى طاولة المستهلك.

*كاتبة سعودية