يتنامى التهديد المتمثّل في صعود القوميين اليمينيين المتطرفين في أوروبا، المعادين للأقليات والمهاجرين وحقوق المرأة وعلوم المناخ.. وفي أحيان كثيرة للديمقراطية التعددية نفسها. وهو ما يدفع حالياً قادةَ الأحزاب التقليدية المعتدلة لاتخاذ قرارات كانت لتبدو مستبعدةً أو مستحيلةً في الماضي. 
والواقع أن أي بلد أوروبي تقريباً لم يجد بعد حلاً للتغلب على صعود الأحزاب الشعبوية، التي يتأثر بعضها بدونالد ترامب وقد رسمت لنفسها طريقاً على شاكلة أفكاره وسياساته. صحيح أن استراتيجيات شيطنة هذه الأحزاب أو مواجهتها أو استيعابها أو تجاهلها أدت إلى تقليص جاذبيتها في بعض البلدان أكثر من غيرها. غير أنه في بعض البلدان كانت الكلفة بالنسبة للسياسيين الساعين لتهميش الكتل المتطرفة باهظة جداً، وربما مزعزعةً للاستقرار أحياناً. ثم إنه في مواجهتهم اليمينَ المتطرفَ، يتصارع الزعماء الأوروبيون أيضاً مع هوياتهم الخاصة. ولئن كانت العواقب مسألة حسابات وتخمين، ففي إسبانيا قام رئيس الوزراء بيدرو سانشيز للتو بتخمين قد تكون له تداعيات كبيرة للغاية. سانشيز، وهو سياسي من يسار الوسط، يسعى وراء ولاية ثانية، وقد فشل مع حلفائه داخل الائتلاف الحاكم في الفوز بما يكفي من الأصوات لتشكيل حكومة في انتخابات الصيف الماضي العامة. وكذلك فعل منافسُه الرئيسي من يمين الوسط، المتحالف مع حزب «فوكس» اليميني المتطرف، الذي يفضّل قادتُه إلغاء القوانين التي تحمي المرأة من العنف.
هذه النتيجة تركت إسبانيا في حالة من الشلل السياسي منذ ما يناهز أربعة أشهر. ولتجنب سيناريو انتخابي مماثل، اختار سانشيز المخرج الوحيد المتاح، ألا وهو: صياغة صفقة مريبة دستورياً مع حزب انفصالي هامشي هو «جونتس»، الذي يرغب في استقلال منطقة كاتالونيا الإسبانية. وكان هناك ثمن باهظ ينبغي دفعه من أجل عقد هذه الصفقة، قال سانشيز إنه سيدفعه. وقد وافق على دعم عفو جماعي عن مئات السياسيين والمسؤولين وأعضاء الحزب الانفصالي الذين نظّموا استفتاءً غير قانوني على استقلال كتالونيا في عام 2017، محوّلين في الأثناء وجهة أموال عامة. وكان سانشيز قد استبعد، حين كان مرشحاً، مثل هذه الصفقة، لكنه أبرمها في نهاية المطاف مقابل الحصول على دعم الانفصاليين للحفاظ على منصبه، وقد نال ثقة البرلمان خلال تصويت لسحب الثقة من حكومته منتصف شهر نوفمبر المنصرم. 

وبعيداً عن تهمة الانتهازية التي يرميه بها مناوئوه، فإن الخطوة التي أقدم عليها سانشيز لا تخلو من منطق سياسي. إذ من خلال هذه الشراكة، دفع سانشيز الانفصاليين لدعم الحكومة وتخريب قضيتهم الأولى، أي الانفصال عن إسبانيا، حتى وإن ظلوا متمسكين بخطابهم القديم. كما أنه تجنب إجراء انتخابات جديدة قد تأتي باليمين المتطرف إلى السلطة، وهو السيناريو الذي يسميه «الكارثة».
غير أن ذلك قد يأتي بنتائج عكسية. ذلك أن ثلثي الإسبان على الأقل يعارضون العفو الجماعي، حيث خرج مئات الآلاف من المتظاهرين احتجاجاً على الاتفاق. وفي الوقت نفسه، تعهد قادة حزب «فوكس»، الذين يعارضون النزعة المحلية بشدة، «بعدم ضبط النفس... وبعدم الهدوء أو التسامح» من أجل وقف ما أسموه «الانقلاب». ومكمن الخطر هنا هو أن بعض الإسبان، الغاضبين من عفو واسع النطاق، قد يرتمون في أحضان حزب «فوكس»، وهو ما من شأنه دفع إسبانيا وتقريبها من «الكارثة» التي يخشاها سانشيز. 
شبح صعود اليمين المتشدد لعب دوراً مهماً في تحولات أخرى حدثت مؤخراً عبر أوروبا. ففي ألمانيا، عقد المستشار أولاف شولتز هذا الشهر ما وصفه بالاتفاق «التاريخي» لخفض المزايا الاجتماعية للمهاجرين وتسريع إجراءات اللجوء، مما قد يفضي إلى تسريع عمليات الترحيل، وهو ما يمثّل منعطفاً حاداً بالنسبة لحكومته الائتلافية المحسوبة على يسار الوسط والتي تضم «الخضر»، وهم حزب لطالما دافع عن الهجرة. 
كما عكس ذلك نوعاً من الشعور باليأس الذي يأتي على خلفية ارتفاع أرقام حزب «البديل من أجل ألمانيا» في استطلاعات الرأي. إذ ارتفعت شعبية هذا الحزب القومي المتطرف المناهض للهجرة مع تدفق طالبي اللجوء. وبات «البديل من أجل ألمانيا» الآن ثاني أكثر الأحزاب شعبية في ألمانيا.
وفي فرنسا، تبدو أحزاب الوسط مندهشةً من الصعود المطرد لمارين لوبين، القومية اليمينية المتشددة التي خاضت ثلاث انتخابات رئاسية على التوالي وخسرتها. وحسب المؤشرات، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون يولي انتباهاً لأرقامها الانتخابية المتصاعدة. فخلال انتخابات العام الماضي، قال إن لوبين ستتسبب في إشعال «حرب أهلية» بسبب منع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب في الأماكن العامة. لكن هذا العام، أصدر وزير التعليم الفرنسي، وهو من حلفاء ماكرون، قراراً يمنع الفتيات من دخول المدارس العامة إذا كن يرتدين العباءة أو العباية. 
هذا الأمر بدا بمثابة خطوة هدفها تهدئة وإرضاء الناخبين المنجذبين إلى لوبان بسبب معارضتها لتقدم الإسلام، لكنه أيضاً مثّل ابتعاداً عن تسامح حكومة فرنسية وسطية. ثم إن لوبين ما زالت تتصدر استطلاعات الرأي بين المرشحين المحتملين قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة المقررة في 2027. 
والواقع أنه لا توجد حلول سحرية للحد من جاذبية الأحزاب اليمينية المتشددة، وخاصة بالنظر إلى الارتفاع الكبير في الهجرة عبر أوروبا، والتي تُعد (أي الهجرة) بمثابة المحرك الرئيسي لتلك الأحزاب. لقد تراجعت شعبية حكومة شولتز الائتلافية. أما في ما يخص سانشيز، فيبدو أنه حصل على ولاية جديدة عبر إصدار العفو عن الانفصاليين الكاتالونيين، لكنه يواجه أمواجاً عاتية متلاطمة بالنظر إلى رد الفعل الشعبي. 
وخلاصة القول هي أن التحركات التي يقوم بها الوسطيون الأوروبيون، سواء بدافع النفعية أو البقاء أو التفكير الرغائبي، قد تحتوي على بذور زوالهم. ذلك أنه ضمن جهودها الرامية إلى الحؤول دون وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، تبنّت الأحزاب التقليدية في أوروبا استراتيجية غير أكيدة من أجل البقاء.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج آند سيندكيشن»