«لقد ولى عهد الفرنكوفونية أفريقياً» كانت تلك كلمات الرئيس ماكرون في كلمة للفرنسيين المقيمين والعاملين في الغابون مطلع مارس الماضي خلال جولته الأفريقية.

ومثل وسط وغرب أفريقيا عمق الفرنكوفونية بعد خسارتها للثقل الجزائري في معادلتها الأفريقية رغم حضور اللغة الفرسية في الهوية الفرنكوفونية الحية، وكذلك تراجع تأثير عاصمة النور في صناعة السياسات الوطنية في عموم ما تمثله جغرافيا الفرنكوفون سياسياً، وخصوصا بعد ما عُرف بـ«الربيع العربي».

ربما أن ما حفز عملية الانقلابات بالجملة في وسط أفريقيا (مهما تواءمت دوافعها ومحركاتها الداخلية والخارجية) هو تخلي أوروبا وليس فرنسا فقط عن عملية «برخان» الأمنية في محاربة الإرهاب (انطلقت في أغسطس 2014 وأنهيت في أغسطس 2022) في غرب أفريقيا (الساحل) نتيجة غياب مفهوم أمني أوروبي مشترك انطلاقاً من أمن دول حوض المتوسط.

ولا يعزى للأزمة الأوكرانية وحدها العنصر المسرع في التعجيل بتحجيم الدور الفرنسي أمنياً في عموم وسط أفريقيا ودول الساحل، إلا أنه يُعتب على باريس في مهادنتها نماذج سياسية فاشلة مخافة خسارة ما تبقى لها من مصالح استراتيجية في جغرافيا باتت ذات حيوية استراتيجية أكبر من منظور أقطاب أخرى.

وبمراجعة سريعة لمسار الانقلابات المتصلة جغرافياً منذ أولها في تشاد، أبريل 2021/ مالي، أغسطس 2021/ غينيا، سبتمبر 2021/ بوركينا فاسو، يناير 2022/ النيجر، يوليو 2023/ الغابون، أغسطس 2023، يتضح ما تمثله تلك الجغرافيا المتصلة من ثقل مستقبلي ليس فقط جيوسياسياً، بل ما تمثله بعض مخزوناتها الاستراتيجية مثل الليثيوم، الكوبالت، النحاس المنجنيز، واليورانيوم، من مكانة خاصة تطال مجالات وصناعات حيوية مثل أشباه الموصلات وبطاريات السيارات الكهربائية، الاتصالات، الصناعات الدفاعية المتقدمة والطاقة النووية. وتعد الصين الشريك الاستراتيجي الأكبر أفريقياً، والمستثمر الأكبر في كافة مجالات صناعة التعدين بالإضافة للاستثمار في مجالات الطاقة التقليدية (النفط والغاز). ويجب إدراك أن الكثير من دول الساحل تمثل طرق إمداد مباشرة وآمنة بالمقارنة مع مسارات ملاحية تعد أكثر كلفة وأطول مسافة وأقل أمناً لسوق الأميركيتين.

التكلفة الاستراتيجية للاستثمار العبثي في الفراغ والهشاشة السياسية أفريقياً قد أنتجت واقعاً مغايراً لكافة الفرضيات التي أسست لقابلية «الاستنزاف الأقصى» للفاعلين التقليدين والمستجدين على الخارطة الأفريقية، وإن تأثيرات ما يمكن أن تفرزه جملة التحولات في الكتلة السياسية المتصلة (دول مسار الانقلابات) مدفوعة بتراكمات عقود من الغبن الاقتصادي والاجتماعي، قد تقود لظاهرة قد يستقر على تسميتها لاحقاً بموجة التحرر الوطني الثانية أفريقياً.

إلا أن السؤال الحاضر الغائب على هامش قمة البريكس الأفريقية ولكافة شركائها الاستراتيجيين: هل يمكن تبني استراتيجية أكثر اتزاناً والاستفادة من تراكمات تجاربهم الأفريقية والشرق أوسطية، وتطوير مناظير تقوم على الاستقرار المستدام؟ يقال إن الصورة بألف كلمة، وهذا ما ينطبق على صورة الرئيس ماكرون وهو يسند الرئيس بونغو ويمنعه من السقوط لأنه فضل التخلي عن عكازه أثناء أخذ صورة مشتركة على عتبات الإليزيه أثناء زيارته الرسمية الأخيرة إلى باريس.

وهل مثلت تلك الصورة مدى ما وصلت له الفرنكوفونية الأوروبية من ترهل استراتيجي أفريقياً؟ هل ستصحو أوروبا الليبرالية على وقع طبول أفريقية مغايرة لم تعهده أثناء مد حركات التحرر الوطني الأفريقية؟

وهل ستفهم ضرورات الانخراط في شراكات استراتيجية مع شركاء غير تقليديين ضمن المعادلة الأفريقية المتوسطية. أزمة أفريقيا تكمن في إرادة التحول، وإنْ كان ما عبرت عنه هذه الانقلابات ولادة مثل تلك التحولات، ربما من الأجدى أن ينفتح الجميع عليها قبل إقصائها، ويجب عدم حبس الأنفاس في انتظار انفراجه من قمة طُليطلة الأوروبية.

*كاتب بحريني