هل أساء الشمال وعلى رأسه الولايات المتحدة قراءة توجهات الجنوب (قمة البريكس) مرة أخرى، وافترض أنها ليست أكثر من اجتماعٍ لاتحاد صغار الملاك المتذمرين دائماً، وللأسف ذلك تماماً ما يبدو عليه الأمر من خلال ما رشح من تصريحات مواكبة للقمة وأخرى صدرت عن واشنطن دون غيرها من العواصم في وقت سابق.

بالنسبة لواشنطن، فإنها هي فقط من يملك أن يعطي أو يصبغ من رتب وأدوار لمن تراهم صغاراً، وهي من يملك إرادة القدر والقدير من الدولار العظيم والعقوبات إلى عصا حاملات الطائرات.

وويل لمن يتحدى إرادة «الإله زيوس»، فيسلط عليه من أدوات العقاب ما يشاء ليكون عبرة لمن يَعتبر. فلقد استغرق الأميركان عشرين سنة فقط لإبداء اعتذار خجول عن غزوهم وتدميرهم العراق، وكذلك رفضهم فرض نظام حوكمة أكثر صرامة على النظام المصرفي الأميركي بعد جائحة الرهن العقاري عام 2007 وما تسببت فيه من شبه انهيار تام للنظام المصرفي الدولي، وقد تُرجم ذلك الفشل مرة أخرى من خلال انهيار مصرف «سيليكون فالي» في العاشر من مارس 2023.

نجاح نماذج تكتل البريكس (على غرار بنك التنمية الجديد) من عدمه مرهون بإدراك دوله لحيوية الجغرافيا والثقافات المتصلة والمتواصلة، وإن كافة نماذج الهيمنة، الشرقي منها والغربي، مسارها الفشل إن لم تكن حروباً كونية، وإن دبلوماسية «الوكلاء بالإنابة»، قد ولى زمنها، مهما بلغت ملاءة الجغرافيا من مناظير الأحجام والكتل البشرية، فقد أثبتت التجارب أن النمل يملك أن يهزم الفيلة. وكذلك ما يتصل بالتحديات الداخلية الأخرى ضمن توازنات ما يُعرف بـ«الدول المؤسسة والأخرى القادمة»، فهذا ليس أوبك+، ولا يمكن افتراض قبول جغرافيا اقتصادية بحجم دول ما تمثله دول شبه الجزيرة العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، أن يُرمز لها بإشارة (+) وكأنها طارئ جغرافي لا فاعل استراتيجي. فإن أساء مؤسسو التكتل قراءة التاريخ السياسي منذ نهاية الحرب الباردة، وأدخلت آليات الأثقال الافتراضية على أرض واقعية الاقتصاد السياسي، فإنه سيتحول لا محالة لنموذج آخر من نماذج العدالة الاقتصادية الكونية الكسيحة.

تكتل البريكس لن يزيح الدولار عن عرشه ويجب ألا يَنجر البعض لمثل تلك الفرضية، وإن إرادة 42% من سكان الكرة الأرضية ليوسم باتحاد ملاكٍ، تجعلهم قادرين عن تطوير رؤى مشتركة نتيجة لحتمية اتصال الجغرافيا وقواسم الثقافة، وذلك أولًا. أما ثانياً، فإنه قد بات لزاماً إعادة التعريف بمفهوم المصالح من منظوري المصالح القومية للكبار، والأخرى الإقليمية والقابلة للتكافل في ما بين دوله عليها، ووقع مثل ذلك على مفهوم التعاون الدولي وكذلك وضع العدالة الاقتصادية الموعودة على مسار قد يفضي لمثل ذلك. لطالما حدثنا الشمال عن ضرورات الاحتكام للواقعية السياسية، إلا أنه فشل في تحقيق نموذج يتيم للتنمية المستدامة والاستقرار، وآخر نماذج ذلك ما أفضت إليه من أزمة في أوكرانيا.

فالمُتسبب بها ليس فقط العملية العسكرية الروسية في الأراضي الأوكرانية، بل سوء تقدير استراتيجي من قبل الولايات المتحدة، وعجز أوروبي في التعبير بأدوات سياسية أكثر قدرة على التعبير عن إرادة جامعة، واحتوائية أكثر قدرة على تمثيل مصالحها العليا أوروبياً.

إنه فجر الجنوب، إنْ أحسن الجنوب إدراك «توظيف» ما تمثله الجغرافيا الإنسانية المتصلة وقواسمها الثقافية المشتركة، وكذلك خطأ الانغلاق وتفويت الانفتاح على تجارب رائدة كبرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، ويتعين على هؤلاء الثلاثة كذلك إدراك أن للجغرافيا استحقاقات مُقدمة على التاريخ، وإن الأقربين أولى بالمعرف استراتيجياً.

*كاتب بحريني