مثّل الدولار الأميركي أحد أهم أدوات السياسة الخارجية الأميركية غير الصلبة إلى حين قررت واشنطن تصدير دينها العام وسياساتها الداخلية عبر الدولار منذ ثمانينيات القرن الماضي بشكل أوسع.

مكانة الدولار ارتكزت على كونه عملة الاقتصاد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية (خطة مارشال)، وكان يطلق على تلك الدولارات ضمن نطاق دورة الاقتصاد الأوروبي ما قبل العملة الأوروبية الموحدة بـ«اليورودولار»، وأخيراً «البترودولار» بعد اعتماده عملة قياس لسعر برميل النفط في تسويات أسواق الطاقة، وما نتج عن كل ما سبق من أدوات ومضاربات مالية بين العملات الأخرى والدولار.

قرار أوروبا إصدار عملتها الموحدة مثّل أكبر حالات العقوق من المنظور الأميركي سياسياً، وما تبقى لحفظ مكانة الدولار هو الاقتصاد الأميركي وجاذبيته الاستثمارية، بما في ذلك الاستثمار في أدوات الدين الأميركي (سندات الخزانة الأميركية)، وكونه العملة المفضلة في التبادلات التجارية دولياً، «البترودولار»، وأخيراً القروض والمنح الأميركية الخارجية. إلا أن النظرة للدولار اليوم لم تعد كما هي بالأمس، فالولايات المتحدة أفرطت في «تسليح مكانة الدولار Weaponizing The Dollar» سياسياً، وأهملت مراعاة ما ألحقه الدولار بالاقتصاد الدولي نتيجة أزماتها الداخلية، وخصوصاً في ما يتعلق بالرقابة المالية، وتراجع مكانة النموذج الأميركي اجتماعياً وسياسياً. تلك المخاوف باتت العنوان الأبرز في إدارة العلاقات الدولية بين الكتل، فلو قررت مجموعة «البريكس» مثلاً اعتماد نظام تسوية خارج إطار الدولار فيما بينها أو أن يطال مثلها تسوية مبيعات ومشتريات النفط، أو التفكير في عملة رقمية ذات تقيم خارج إطار الدولار، فما هو وقع مثل ذلك على مكانة الدولار الأميركي سياسياً قبل اقتصادياً.

بعض ما رشح عبر تسريبات متعمدة أو مسيسة بعد زيارة وزير الخارجية الأميركية بلينكن للمملكة العربية السعودية قد تجاوز أبعاد العلاقات الثنائية والإقليمية، وكذلك مسار التطبيع مع إسرائيل من المنظور الأميركي الإسرائيلي، خصوصاً بعد أن ألمحت أكثر من دولة خليجية وعربية نيتها الانضمام لمجموعة «بريكس». فهل يمثل مثل ذلك بدء عملية فك الارتباط النسبي بالدولار وليس بالولايات المتحدة؟ أم أن ذلك هو جزء من تعزيز مكانتها الاقتصادية مع أهم شركائهم التجاريين، ومنفذاً على أهم الاقتصادات الصاعدة، وتمهيداً لتعميق مصالحها في أفريقيا عبر شراكات استراتيجية.

أولويات واشنطن الآن هي إعادة انتخاب الرئيس بايدن، وتغليب نموذج إدارتها للأزمة الأوكرانية، أما ثالثاً فهو تطوير منظور قابل للاستدامة في إدارة تفاصيل علاقاتها الصينية بعد تصنيفها الأخيرة بالخصم الأول للولايات المتحدة، وتلك تحديداً هي مصادر تراجع مكانة واشنطن إقليمياً، وعليها إما استدراك ما عرضته من منظور ما قدمه مستشار الأمن القومي قبل زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية، أو القبول بالنتائج المحتملة لبعض ما اختاره بلينكن من مسارات ثنائية (واحدها البرنامج النووي المدني السعودي)، الإقليمية والدولية.

*كاتب بحريني