الخميس 9 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: أجمل ما في أميركا أننا نعرفها

د. عبدالله الغذامي
22 يوليو 2023 02:08

عبارة أجمل ما في أميركا أننا نعرفها جاءت على لسان المسرحي الألماني برايخت، ولو تأملنا في حالنا مع أميركا لاكتشفنا حقاً أننا نعرف أميركا معرفةً كاشفة ومكشوفة، ونحن نعرفها من أول تأسيسها، ففي حال أميركا تم تغيير ذاكرة الأرض على مشهد وشاهد بشري حي وواقعي، حيث  جرى مسح ذاكرة قديمة وعريقة واخترعت بدلاً عنها  ذاكرة أخرى تلونت وتنوعت، ولكنها ظلت كاشفة لذاتها وللحال البشرية مع صناعة الهويات الصاهرة والمتعددة كذلك، وقد أريد  لها أن تكون هويةً واحدة صاهرةً ومصهورةً، ولكنها أبت إلا أن تظل متعددةً لوناً وأعراقاً وطبقات، وظل لون واحد من بينها مهيمناً ومسيطراً وفارضاً للغته ونظام تفكيره وذوقه وكاسحاً لكل الألوان الأخرى والهويات تحت خدعة الاندماج. 
تلك هي حالها تاريخياً، أما معرفتنا اليومية بها، فبمجرد نظرة في الصحف والنشرات اليومية والفضائيات المتعددة  فستعرف الحال الأميركية  كما يعرفها الأميركي عن الاقتصاد والأمن والأفكار السياسية بل حتى الأفكار التآمرية، وهي الدولة التي قال عنها كيسنجر (على أعداء أميركا أن يحذروا منها، وعلى أصدقائها أن يحذروا منها أكثر)، وهذا الأميركي ذو الأصل الألماني يعترف بأن أميركا مكشوفةٌ في كل سلوكها، وهي الدولة التي إذا استصغرت حليفها أكلته، وإذا استغنت عنه لفظته، وإذا وجدت نفسها في حاجةٍ باعته، ولكن إذا وجدت لحمه مراً عملت له ألف حساب، وإن عجزتَ عن فهم تصرفها فكلام كيسنجر يغنيك بأن تتوقع منها كل شيء وأي شيء دون أن تقول إنك تفاجأت بما حدث.
وفي المقابل، فمهما غضبنا من أميركا أو استأنا من سلوكها معنا وعالمياً، فإن العمل معها يظل مأموناً من جهتين، أولهما تقلب أحوال أميركا ومواقفها مع كل رئيس جديد، وهذا يجري كل أربع سنوات وبالكثير الكثير ثماني سنوات، والثاني أن كل فعل لها يظل على المكشوف، فأنت تتعامل إما مع حليف أو مع خصم قصير المدى وكلما صبرت مع تعنتاته، فإن صبرك لن يدوم طويلاً، ونستذكر هنا كلمة المتنبي عن العدو المداجي، وهو العدو الذي تعرفه، ومن هنا نرى أن أوروبا مثلاً ظلت تتلقى الطعنات من أميركا ومع هذا ظلت في تحالف معها وبأقوى حلفٍ على وجه الأرض وهو حلف «الناتو»، حيث التشارك التام في الأسرار العسكرية والاستخباراتية والاستراتيجيات الدفاعية والحربية، ومن هنا تأتي عبارة برايخت أجمل ما في أميركا أننا نعرفها، مع أن برايخت بوصفه يسارياً شيوعياً هو عدو لأميركا وظل حتى مماته، وهي يتمنى أن يراها تنهار وتحل النظرية الاشتراكية محل الرأسمالية الأميركية، وكرهه لها لم يمنعه من التغني بهذه الجمالية النادرة، وهي أن تعرف عدوك، وكلما عرفت عدوك فأنت آمن، والمعرفة في أهم معانيها هي أنها أمان، مقابل أن عدمها خوفٌ، وفي الثقافات القديمة أوقع الخوف البشر في السحريات والتنجيم والتفكير الأسطوري، مما جعل الجهل أخطر أمراض البشر، والمعرفة وحدها الشفاء وإنْ كان مراً، وهذا ما يجعل أميركا مثالاً نادراً في تاريخ الحضارات حيث هي «الكاشفة لذاتها المكشوفة لغيرها».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©