أن تكبر في العمر فهذا ليس شأناً خاصاً بك وحدك، بل هو أمر عام ويعني كل المحيطين بك، فأنت أكبر أمام أهلك في المنزل وأمام زملائك في العمل، وحتى أمام بائعة الكاونتر التي تحاسبك على ما تبضعته من المنتج، وحتى أنا أكبر أمام من يقرؤون لنا، نحن من نخط بأقلامنا آراءنا ومشاعرنا حول كل ما هو خاص وعام، مهما تحايلنا بكلماتنا على تلك الأيام التي تضاف إلينا عاماً بعد آخر.
أعلم أنني أكبر، من كثرة الأوراق التي عليّ تجديدها والتي تظهر تاريخ الميلاد والعمر، ومن تلك الآلام الغريبة التي تزداد كلما قمت بأمور طبيعية طالما اعتدنا الإتيان بها، ومن كثرة الفحوص الطبية التي يطلبونها مني، ومن عيون الآخرين الذين يتصرفون معي بجدية تامة رغم جنوحي أحياناً للتساهل. أعرف أني كبرت من ساعات القراءة التي قلت كثيراً بسبب تعب النظر. أعلم هذا جيداً، ولكني لا أصدقه ولا أتعاطى معه بجدية أبداً وعلى الإطلاق، حتى إن صورتي في المرآة هي ذاتها لم تتغير منذ عقدين.
ولكن للعمر أحكام أخرى، تتغير المشاعر تجاه الأشياء، تتبدل الرغبات جبراً للتوافق مع تلك الأرقام الموجودة في الأوراق الرسمية، تغيرت ولا أدري كيف حدث ذلك في غفلة عني. كل ما سيحدث لاحقاً سيأتي فجأة، مشاعرنا وأفعالنا ستتناسب مع ما ستطلبه موظفة الاستقبال في العيادة وما سيكتبه الشرطي في ورقة تخطيط الحادث من بيانات شخصية، سيكون الآخرون أقدر على تحديد ما يليق بهذا العمر أكثر من صاحب العمر نفسه!
ورغم كل ذلك، سيبقى الشعور الحقيقي بهذا العمر غير محسوس، حتى أن يهرم فجأة من عاملوك العمر كله بأنك صغير، ويبدؤون في الحاجة إلى كبرك وعقلك ورعايتك. ستتغير وقتها الصورة في المرآة وستتغير الضحكة التي اعتقدت طويلاً أنها نفسها منذ أيام الثانوية، وستبدو الذكريات التي كانت بالأمس قريبة.. بعيدة جداً.