على قارعةٍ ما، كان يجلسُ ثلاثةُ رجالٍ رهنوا أنفسهم لاكتشافِ الحقيقةِ في الشارعِ اليومي لوجودهم. كانوا يُحدّقون في المارّة بحثاً عن شخصٍ له صفة الكمال، لكنهم لم يجدوا غير بشرٍ مأكولين بعاهة النقص، وآدميين أعمتهم الرغبةُ في الامتلاك إلى درجة التوحش. وحين مرّت عليهم طفلةٌ تبيع الزهور، فطنوا إلى مكمن الحزن في عينيها، وبالتدريج أدركوا أن كل حقيقة ناقصة، وأن الوصول إلى يقينٍ مطلق، هو ضربٌ من الحفر في الفراغ.
قال الرجل الأول: ما دامت الحياةُ مجرّد فاصلٍ بين الولادة والموت، فإن البحث عن المعنى في هذا الزمن القصير يعني الدخول في دوامة الهلاك. ثم نهض ومزّق قميصه رغم البرد، واختار أن يمشي على خط مستقيم بلا نهاية إلى أن يسقط أخيراً في القبر.
قال الرجل الثاني: ولدتني أمي مجرداً من كل شيء، احتجتُ الهواء في أول الأمر، ثم بكيتُ طلباً للحليب والماء، ثم روّضني المخلصون ليجعلوني واحداً منهم، ثم دربني المدرسون على النظر إلى التاريخ كأنه خط مستقيم مرسوم على قميص الزمن. وحين حاولتُ إزاحة كل ذلك من صفحة العقل، لم أعد حراً كما ولدتُ، وإنما مجرد كائنٍ حائرٍ، كلما أغلق سؤالاً عن معنى الزمن، فُتح له عشرون باباً غيره. وكأنما كُتب عليه أن يشقى في البحث عن الجوهر الأصلي للأشياء، بينما الأشياء، كل الأشياء، لا وجود لها إلا في الذهن الذي يراقبها ويراها ويحاول أن يفسّر فحواها.
اختار الرجل الثالث أن يستمر محدقاً في مشهد الوجود إلى الأبد. في اليوم الأول أدرك أن كل الأشياء تتغير ولا يعود شيء إلى طبيعته الأولى من جديد. بدأ بمراقبة الضوء ورآه كيف يصعد في الصباح وتتفرع منه الظلال الكثيرة ثم يختفي في المساء. ورأى الناس منقلبين في أحوالهم ومتقلّبين داخل اللحظة ولا أحد منهم يكونُ هو نفسه في اليوم التالي. ثم أيقن أو شبه أيقن جازماً، أن المتناقضات هي الأخرى لا تدوم على حالها. بمعنى أن الليل والنهار هما شيء واحد، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد من دون الآخر. ثم سأل نفسه: لو يختفي العالم هذا كله وأبقى أنا وحيداً، هل أصبحُ موجوداً حقاً؟ أم أن وجودي مرتبط بوجود الآخرين؟
من على قارعة الطريق تلك، اختفى الرجال الثلاثة، ولكن ظلت أفكارهم تحوم في المكان وتبدلاته في الزمن.