أن نحتفي بكبار المواطنين، وأن نضعهم بين الرمش والعين، وأن نمنع عنهم غبار العمر، وأن نصقل مرآتهم، وأن نمنع عكازاتهم من الزلل، وأن نسمعهم صوت الموجة وهي تحرك مجاديف قوارب تعبهم، وأن نحتويهم ونحميهم ونعتني بهم، ونرعى مراكب خيالاتهم، وأن نقول لهم أنتم هنا في المقلة، أنتم تحت الجفون بصر وبصيرة، أنتم الفضيلة، أنتم التاريخ في الجغرافيا، سيرة ومسيرة.
كبار المواطنين، العمر والسبر، والسر والخبر، لوطن مد الشراع عالياً، ولم يلق صوت النهام في البحر، ولا في الفراغ، بل لم يزل يصدح، ويرفع النشيد عالياً، تسمعه الأجيال، وتصغي إلى أغنياته شجية ندية، في ضمير الأوفياء، في قلوب النبلاء، في كراسات الأحفاد، وعلى سبورة الأيام أيقونة وقيثارة.
كبار المواطنين اليوم وهم يتأملون المشهد في الوطن المجلل بجمال وكمال، يقرؤون ما جاش في الزمان من لواعج في المهج، وما سارت حوله القوافل، تخب باتجاه الغد، باتجاه محبة الوطن، والإنسان والمكان.
كبار المواطنين اليوم وهم يسردون للأجيال قصة وطن، كان في عمق التاريخ أغنية تتردد على لسان النوارس، وعند هامات النخيل، وطن كان على سنام وصهوة رونق الصحراء، وحلم الإنسان بالوصول، وطن كان يحمل في الثنايا آمالاً وطموحات وأهدافاً، يحمل في الطيات قصائد نساك التراب، وقديسي الوعي.
وطن اليوم وهو يشرق بأحلام أبناء وأحفاد، يمضي قدماً وفي الذاكرة ناقوس وقاموس وفانوس، ومشاعر مثل أعشاب البحر، تلف لفيف المراكب، ومن الملح تحتسي روعة الولوج في أعماق التاريخ، وترشف حلم الغواص بمحارة ذخيرتها در وجوهر.
وطن كبار المواطنين فيه ذخائر وحرائر وجواهر ومنارات تعلو فوق كل الثوابت والمنابت، فهم الكبار، هم المدار، العقد والسوار، هم البعد والمدى، هم العشق والهوى، هم لغة القصيدة في بيتها العامر بالمعنى والدلالة، هم بوصلة الوصول، هم الرحلة يكملها اليوم جيل بعد جيل، والنهار في أوله على دولة لا توارب الأبواب على الوعي، ولا تغلق النوافذ على مشاعر الحب، لأن للكبار مفاتيح الصناديق المغلقة، لا تعرفها إلا الأصابع التي فلقت محارة الأمل، للكبار مع الأعماق حكاية ترويها محارة لم تزل تحفظ الود، مع كفوف حملت على عاتقها ما تحمله الجبال الشم، وما تتحمله سفن السفر الطويل.
كبار المواطنين لغة لا يفهمها إلا شاعر احترف فن الفتوحات السامية، في ضمير القصيدة، كما في قيعان السرد، وفيضه وفضته.