يقف الرجل الطويل على رصيف محطة قطارات صدئة ويسأل: متى يأتي قطار حبيبتي؟ ومن خلفه في مشهد الضياع هذا، تضحك الأشجار عليه لأنها تُدرك أن المطر، وإن تأخر كثيراً، فهو يصل في النهاية ويروي عروق منتظريه. أما القطارات، فإنها إذا خربت تتوقف للأبد، وتُرمى أجسادها النحيلة في مقابر الخردة والنسيان. أما الرجل الطويل، فهو عاشق الوهم ليس إلا. لأنه في اللحظة التي سيغادر فيها رصيف الأمنيات المستحيلة هذا، ستصلُ حبيبته إلى هناك، وستفتشُ في حقائبها عن صورته المتخيلة كرجل لا يهزمه المستحيل ولا يطعنه اليأس في الخاصرة. لكن الزمن سيكون قد عضّ على أصابعها إلى درجة أنها لن تستطيع أن تلوّح له وهي تراهُ ينعطف عنها، ذاهباً لييأسَ في مثواه الأخير.
يقف محصّل تذاكر القطار على الرصيف منتظراً قدوم الذاهبين أو القادمين. لكنه يكتشف فجأة أنه وُلد في المكان الصفر. حيث لا أحد يعود من الذكريات ولا أحد يذهب إلى النسيان. فقط بشرٌ يتوالدون في مرايا الذات، وتتقلب أسماؤهم في ورق الكتب التي تتصفحها الريح. ها هي امرأة بقبعة ملونة وفستان أبيض وحذاء أحمر تحاول أن تصعد القطار ولا أحد يعينها على اتخاذ الخطوة الأولى. ها هي فتاةٌ قررت الهروب من تكرار الأيام وبؤسها، لكن المطر بلّل طريقها وأسقطتها خطواتها المتعجّلة في الوحل. ومحصّل التذاكر هذا لا يعنيه لو لم يصعد أحد في القطار. ذلك لأنه أدرك منذ زمنٍ بعيد، أن الذاهبين لا يعودون كما غادروا، بل تتغير أرواحهم في كل مرة، فيما يظل هو، أسير حراسته لنفسه، ورابط قيد نفسه، ومحصّل تذكرة وقوفه في المكان نفسه.
يصرخ سائق قطار اللانهاية عالياً: متى سأقف وأين؟ لكن الفلاسفة في المقطورة الأخيرة يقهقهون وكأنهم سمعوا طرفة رجل بسيط يسأل عن مصير البشرية كلها. وسائق اللانهاية هذا لا يعرف أن قطاره يدور منذ الأزل في دائرة مغلقة، وأن الزمن المحبوس في الساعات، محبوسٌ أيضاً في الساحات والأمكنة المفتوحة. وسيسمع هذا السائق مشاحنات الشعراء في المقطورة المائلة، ونحيب أرامل في مقطورة الخطأ. وسيرى بأم العين وجه الرجل والمرأة وكلاهما يحملُ الوردة لأن طعن شوكتها ينفذ إلى القلب، وسُمهُا يجرحُ، ولسعها يُميتُ. والويل كل الويل لمن لا يحمل تذكرة نزوله، أو قفزِه، من هذا التراتب المكرر والعبيط.