نذهب إلى معرض أبوظبي الدولي للكتاب في كل عام لنجني ثمرة العقل، ولتحصد الروح ما يتناثر من وجدان المؤلفين وعرق سهرهم الطويل على تحقيق المنجز الأدبي والفكري والإبداعي. وما يثلج الصدر حقاً، أن المعرض عبر هذه المسيرة الطويلة من السخاء الثقافي، أصبح اليوم أحد مرتكزات بث التنوير في المنطقة بأسرها. ولا نقصد هنا التنوير الفكري أو الفلسفي فقط، بل نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير ليشمل المعرض برامج وأطروحات وأنشطة تتوغل في أعماق الثقافة الإنسانية بأبعادها وقضاياها الملحّة، وأبرزها قضايا البيئة والتغير المناخي، والرغبة في تعزيز مفاهيم وقيم العمل المستدام، والممارسات الخضراء في المجالات كافة، ومنها بالطبع مجال النشر والكتابة.
البرنامج العام للمعرض هذه السنة، والذي يتوسع إلى أكثر من 2000 فعالية ونشاط، جعل من هذه النسخة الأكبر في تاريخ المعرض، وما يهم هنا ليس الكم، بل الاحترافية العالية في رسم جدول الفعاليات وتوزيع الضيوف واختياراتهم واقتراح المحاور والعناوين لكل فعالية، والضيوف المشاركين فيها. ويأتي هذا الزخم ليعلن استعادة العمل الثقافي في العاصمة أبوظبي نشاطه المعهود ووصوله إلى الذروة، حيث تحتفل المدينة في مواقعها الثقافية كافة بالعشرات من الفعاليات الأدبية والفنية والموسيقية والتراثية التي تتكامل في رسم المشهد الحضاري للإمارات متجلياً في مدنها المزهوة بضوء المعرفة وحراكها الثقافي النوعي والمتميز.
القيم التي ترسخها الثقافة في المجتمعات، هي التي تضمن للأمم الاستمرار في الارتقاء والتطور ومواجهة تحديات المستقبل. وقد عملت الإمارات على أجندة ثقافية عالية جداً، وتمكنت منذ سنوات التأسيس الأولى أن تمنح الثقافة والتراث الاهتمام والدعم اللازمين، وظل هذا الدعم يكبر مع تطور الإمارات إقليمياً وعالمياً، إلى أن استطعنا أن نمتاز بخصوصية ما نطرحه من فكر وتوجهات ورؤية تنظر إلى الثقافة بحقولها كافة، باعتبارها النهر الذي يغذّي البنية الروحية للمجتمع، ويدعم برامج العمل الدؤوبة في التعليم وتنمية المعرفة، ويمتد ليشمل الاقتصاد والسياسة وبقية مناحي الحياة. ويأتي في صدارة المشهد معرض أبوظبي الدولي للكتاب باعتباره أيقونة هذه الأنشطة وأكبرها.
الرائع أيضاً، أن المعرض يتبنى الأطروحات التكنولوجية الجديدة ويستشرف بها آفاق العمل في صناعات النشر والكتاب. ومن يتابع الحسابات الرقمية والمنصات والتطبيقات التي يتم طرحها في المعرض، يُدرك أن البعد التقني أصبح عنصراً فعالاً، ويخدم الأفكار الجديدة التي تناسب آليات التلقي الحديثة على أجهزة الهاتف أيضاً، بما يكشف في النهاية عن أن إدارة المعرض ترسم خططها برؤية مستقبلية واضحة.