إنه لأمر مزرٍ وقميء وسمج، أن تسمع حالة حرق كتاب ديني لأمة من الأمم، فقط لأن هذا الدين أو ذاك لا يروق لفئة من الناس أو أن هذه الفئة لم تزل تختزن في العقل الباطن، وهو عقل تاريخي يسير على عكاز الذكريات السوداوية، وحورب التاريخ العبارة، ومهما بلغ البعض من تطور وادعاء بالتقدم، فهذا كله لا يتعدى تقدماً في الأدوات، أما الموضوعات فلم تزل في حالتها الجاهلية الأولى.
وإلا ماذا يعني الإقدام على حرق مصحف القرآن الكريم؟ أليس الحرق في حد ذاته يعبر بشكل بدهي عن حالة احتراق في صدور هؤلاء «الغشامى».
إنها القنبلة الموقوتة التي تغلي في الصدور منذ آلاف السنين ولم تجد من يطفئها، لأن العقل البشري ليس جاهزاً بعد، لأن الوعي لم يحضر بعد، لأن الإدراك في حالة سبات منذ أن سقط سقراط العظيم في غيبوبة حتى الموت، متسمماً، لأن ما فكر فيه وما قاله لم ينسجم مع أفكار من تعودوا على وراثة الأفكار، ومن دون تمحيص أو قراءة واعية.
اليوم، وبعد أكثر من ألفي سنة من رحيل أبو الفلسفة الإنسانية، وقد اعتقد العالم أنه فرغ كلياً من العقول الجامدة، وأن العالم صحا من الغفلة منذ سنة 1620، هذا الوقت الذي صرخ فيه فرنسيس بيكون الإنجليزي قائلاً بكل شجاعة «المعرفة قوة» وقد صدّق العالم هذه المقولة، وبصم عليها العقل البشري مفتخراً بأن الإنسان انتصر على طبيعته، ولم يعلم هذا الإنسان إنْ كان يعيش تحت سطوة خدعة بصرية، وأن ما حدث علمياً ليس أكثر من لعبة مزدوجة، محصورة ما بين كلمتي صدق أو لا تصدق، وأن الذين أحرقوا المصحف لن يكونوا أذكى من أينشتاين، وهو عالم الفيزياء الأهم في العالم، هذا «الأهم»، هو نفسه الذي هلل وصفق عندما اكتشف انشطار الذرة، فبعث الرئيس الأميركي آنذاك يقول له مسروراً، الآن نستطيع أن نصنع القنبلة الذرية.
ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني أن الوعي شيء، والمعارف شيء آخر. الوعي هو ملكك أنت، أما المعارف، فهي مقذوفة عليك من الخارج، من الآخر، وكثيراً ما تكون فاسدة، ولا تلائم قدراتك على الوعي بها كمادة لا تستطيع استخدامها، إلا بالطرق الخاطئة، وهذا ما يحصل بالنسبة للحضارة المعاصرة، إنها مثل حثالة القهوة في قاع فنجان قديم.
فالعالم بحاجة إلى الوعي، بأننا أبناء الأرض، أخوة في التراب، وكل ما عدا ذلك يبقى خارج الجبلة، لذلك لا ينبغي أن نكون حراساً خائبين لأفكار بائسة.
وقد قال ابن رشد: «كل الأديان صحيحة، إذا عمل الإنسان بفضائلها»، ويا ليت عندنا اليوم ابن رشد جديداً، فسوف يسخر من العقل الذي قيل عنه أس الحضارة.