أمي هل تسمعين؟ لا يفصلني عنك سوى الأذنين، أحنُّ إلى ذاك العريش، وخيمة سقفها الحنان والحنين.
طفلك الذي كان كبر، ومعه كبرت صورتك، ولكن في قلب الصورة يسكن الزمن بكل لوعاته، وخيباته، وصوتك المجروح منذ أن غادر الصغير وصارت في عينيه لمعة الفقدان، وصور أحفاد تكاثروا كأرانب برية يطاردها، وهم سحرة الحاضر وما فاض من غي، وغيبوبة الغرف المغلقة، وأشياء أخرى لو أعددتها، لانفطر القلب وتشققت ملاءة الروح، وأصبح الوقت مثل غيمة هاربة، تلاحقها ريح لها مخالب مفترس وحشي، وبلا قلب.
أمي، هل تسمعين أن في الصدر طلقة لم يفسدها إلا عيون صغار باتوا يغالبون النعاس، والرغبة جامحة في مد ملاءة الليل، كي تخبئ تحت أجفانهم كفن النهايات القصوى، لكاهن مضه الشغف، ولكن لا جدوى، لأن الزمن نمت له مخالب وأنياب، ولأن المشاعر في حصنها الحصين تلعق عرق الذي شقي من أجل ابتسامة على شفتي شجرة اللوز في البيت، ولكن لا جدوى لأن القلوب ما عادت تفتح صنابير بلدها، ولأن العيون لم تعد تحدق في الوجه الأشيب، وقد بات الشعر كثيفاً مثل أعشاب الشوك في منطقة جرداء خاوية رمالها تدفن الأحياء قبل الأموات.
أمي هل تسمعين؟ فهذا الشبل أصبح يمشي على عكاز الزمن، يسير في المماشي مثل عصفور عجوز هدّه قتل المشاعر في منتصف الطريق، وقبل أن يصل الصوت لمن يهمه الأمر.
أمي هل تسمعين؟ فاصغي قليلاً للذي مد الجسور للفراغ، ولا مناص من أن يستمر في الهتاف لعل الذين غابوا واستمروا في الغياب مهطعي رؤوسهم، لأغنيات تصدح عبر سماعات الزمن القميء، وها أنا لا أسمع سوى ندائك الذي يتسلل عبر ريح تأتي من بعيد، فتطرق بابي، تهز جذع النخلة في قلبي، ولكن لا رطب، ولا حطب يوري شعلة قلبي.
كل الأشياء من حولي تبدو مثل الغياب عندما يكون سمة الزمن، وعنوانه وأشجانه، عندما أكون أنا في الصمت لغة تكسر بحور القصيدة في ضمير من سكن الغث فؤاده واستباحته الفظاظة.
أي قلب هذا في صدرك يا أمي، فكل الحواس عطبت وخابت، إلا قلبك لم يزل عن ذاك الطفل، ولا يغمض العينين، ولا يملؤها إلا دمع الفقدان، وخيبات الزمان المر.
أمي هل تسمعين؟ فالقطار مرّ من حول سريرك، ولكن ليس للقطار ما يشفع كي يفتح الأبواب ويقول للفرح ادخل.. تفضل.
أمي أنا وحدي الذي يعد حبات المسبحة لعلها توقظ في مسامع من حولي وتسألهم، أين هي تلك الخيمة التي رفعت أعمدتها على قوائم من سواعد الرجال، ورموش أمي التي حدقت فيّ وقالت لن تعيش كثيراً، حتى ولو ظل قلبك يحرك آلته السحرية، لأنك كائن تسرقه التفاصيل في عيون أمك.